يتفضل حضرة بهاءالله في الكلمات المكنونة العربية : " يَا ابْنَ الوُجُود . حاسِبْ نَفْسَكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبَ، لأِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِيكَ بَغْتَةً وَتَقُومُ عَلَى الْحِسابِ فِي نَفْسِكَ". من إحدى النصائح التي يقدمها لنا حضرة بهاءالله هي محاسبة النفس " فِي كُلِّ يَوْمٍ"، مما يدلل على مدى أهمية قيامنا بهذه الوظيفة الروحانية بنحوية تتصف بالديمومة والإستمرارية. ف" فِي كُلِّ يَوْمٍ"، لا يعني في كل أسبوع، أو في كل شهر، أو في كل سنة، أو في كل عدة سنوات، أو في لحظات الحرمان والمشاكل، أو مرة واحدة فقط في حياتنا وذلك عندما نكون على فراش الموت. عندما يتفضل حضرة بهاءالله " فِي كُلِّ يَوْمٍ"، فهذا معناه " فِي كُلِّ يَوْمٍ". وهذه الآية الكريمة توازي حكم الكتاب الأقدس، حيث تفضل فيها حضرة بهاءالله " أتلوا آيات الله في كل صباح ومساء ان الذي لم يتل لم يوف بعهد الله وميثاقه". يتشكل اليوم الواحد من حيث التقويم الزمني من صباحٍ ومساء، لذا فإن الآية المباركة في الكلمات المكنونة العربية التي تنصحنا بمحاسبة النفس " فِي كُلِّ يَوْمٍ"، تُوازى الآية المباركة في الكتاب الأقدس والتي تفرض علينا تلاوة الآيات الإلهية في " كل صباح ومساء". فالآيات الإلهية هي الميزان الذي وهبنا الله كي نقيّم على أساسها أعمالنا ونحاسب به أنفسنا. تتوازى الآيتين أيضا في النهاية المحزنة التي يؤول إليه الفرد إن لم ينتصح بأمر حضرة بهاءالله. ففي آية الكتاب الأقدس، ينتج عن عدم إطاعة أمر حضرة بهاءالله بتلاوة الآيات الإلهية " في كل صباح ومساء" أن الفرد لن " يوف بعهد الله وميثاقه" ، وفي الكلمات المكنونة، ينتج عن عدم إطاعة أمر حضرة بهاءالله بحساب النفس " فِي كُلِّ يَوْمٍ" بأن يموت الفرد بغتةً. ومن خلال دراسة تعمقية لهاتين الآيتين المباركتين، فإن إحدى معاني الموت التي تدل عليه هذه الآية في الكلمات المكنونة هي الموت الروحاني والذي هو نتيجة مباشرة لعدم وفاء الفرد بعهده وميثاقه مع الله تعالى، هذا العهد الذي أنزله حضرة بهاءالله على عباده في الكتاب الأقدس ألا وهي تلاوة " آيات الله في كل صباح ومساء". ووصف حضرة بهاءالله هذا الموت بأنه يأتينا "بغتة"، فيأخذنا على غفلة منه ومن أمرنا
عند الكشف في معجم المعاني عن كلمة بغتة فإنها تعني: فجأة وعلى غرة. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم، وتعكس في أغلبها العذاب الإلهي الذي سينزل بغتة على أصحابها وعن القيامة ومجئ الساعة ويوم الحساب. فقد جاءت في سورة الزمر، آية 55"وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ". وذكرت كلمة "َبغْتَةً" في سورة الانعام، آية 31 "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ" و كذلك في آية 47 "قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ" وجاءت أيضا في سورة الأعراف آية 95 " ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" وذكرت كذلك في سورة الأنبياء آية 40" بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ " وفي سورة الشعراء آية 202 " فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " . وجاءت في سورة يوسف آية 107" أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" كما جاءت في سورة العنكبوت آية 53 " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" . وحيث يعتبر الوالدان المرآة الأولى التي يتعرف من خلالها الطفل إلى الإرشادات الروحانية السماوية، فإن من إحدى الوظائف الأساسية اليومية التي تقع على عاتقنا ، هي كيفية حماية طفلنا من الموت وكيفية تربية وجوديته الإنسانية بنحوية يستطيع أن يحمي نفسه من هذا الموت الذي وصفه حضرة بهاءالله بأنه يحدث ويأتي "بغتة"، دون مقدمات، دون إنذار، دون أن نستعد له، دون أن يمنحنا الوقت للإحتراز منه أو النجاه من الهلاك فيه
عندما يتفضل حضرة بهاءالله " حاسِبْ نَفْسَكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ"، فإن فعل المحاسبة لا تشمل فقط تلك الأعمال والأقوال السلبية التي يقوم بها الفرد في يومه ( حيث أن فعل المحاسبة يجب أن نقوم بها يوميا )، بل هي تشمل أيضا في طياتها أعمالنا وأقوالنا الإيجابية. ومن المهم جدا أن يتذكر الوالدان هذه النقطة عندما يبدآن في تربية طفلهما على القيام بهذه الوظيفة الروحانية ألا وهي محاسبة النفس. لأن الطفل في مراحله العمرية المبكّرة يحتاج إلى أن يشعر بجمال خلقته الذي هو انعكاس مباشرلجمال خالقه. لذا يجب أن يركز الوالدان في هذه المرحلة العمرية المبكرة على ذكر أعمال وأقوال طفلهما الإيجابية ومناقشتها معه قبل الإنتقال إلى بعض تصرفاته السلبية في يومه تلك ( يجب أن نتذكر بأن فعل المحاسبة هي عملية يومية، وليست فقط عندما يكون عندنا وقت إضافي في جدول أعمالنا). قبل سن الخامسة، يستطيع الوالدان أن يعوّدا طفلهما باتباع هذه الفريضة الروحانية معه في الليل وقبل خلوده إلى النوم. فمثلا بعد أن تتلو الأم الدعاء مع طفلها، حيث تعتبرتلاوة الآيات الإلهية أيضا فريضة روحانية يومية، تجلس معه وتتحدث إليه عن يومه، وتذكّره بكل الإيجابيات التي قام بها. من المهم جدا أن تذكر عند مناقشة كل تصرف إيجابي قام بها عن مدى حب حضرة عبدالبهاء له ومدى رضاه منه. وعندما تتأكد من أن وجودية طفلها قد أمتلأ بالمحبة الإلهية وبالسرور الروحاني من جراء معرفته لكل الأعمال والتصرفات والأقوال الإيجابية التي قام بها في يومه ذلك، تستطيع الأم أن تناقش معه تصرفا أو تصرفين سلبيتين قام بها طفلها، بنحوية روحانية لا يشعر فيه الطفل بالدونية او يكره فيها نفسه. فبدلا من أن تقول الأم مثلا، اليوم ضربت صديقك، وهذا تصرف سئ، يمكنها أن تسأله: ما رأيك في ضربك لصديقك؟ فيقول الطفل بعد أن امتلأت وجوديته بالقوى الروحانية من خلال حديثه مع أمه عن كل تصرفاته الإيجابية التي قام بها في يومه ذلك : قد أخطأت في ذلك. أو لم يكن هذا عملا إيجابيا. (أو أي شئ من هذا القبيل). فتسأله الأم : ماذا تقترح، كيف يمكنك أن تبدل هذا التصرف بآخر يكون إيجابيا؟ ومن خلال هذا الحوار الليلي اليومي مع الطفل، يغرس الوالدان في وجودية طفلهما مفهوم " حاسب نفسك في كل يوم"، كما يساعدانه على إدراك مسؤوليته الشخصية في تبديل تصرفاته السلبية بانتظام على مقياس زمني يومي وتغييرها بالتي تعكس هويته البهائية. كما يطور هذا الحوار الليلي للوالدين مع طفلهما منذ السنين الأولى من عمره قدراته الذاتية على التفكير اليومي في تصرفاته ومدى قربه أو ابتعاده عن الرضاء الإلهي
بعد أن يصل الطفل إلى سن الخامسة ومابعدها يستطيع الوالدان تطوير منهجية " حاسب نفسك في كل يوم" مع طفلهما بحيث يساعدانه على أن يخطط ليومه منذ الصباح ويشجعانه بعمل برنامج عملي يتبعها في يومه تلك، ويتناقشان معه بكل محبة وروحانية في كل بند من بنود برنامجه في ذلك اليوم، والنتائج التي يرجو تحقيقها. وفي الليل، وقبل أن ينام الطفل، يراجعان معه برنامج يومه تلك، ويشجعانه على تصرفاته الإيجابية ويطلبان منه إيجاد حلول لتغيير تصرفاته السلبية في ذلك اليوم إلى أخرى إيجابية يمارسها في غده
يستطيع الطفل في هذه المرحلة العمرية إدراك أهمية النور للنبات والورد، ولهذا فإن تعريفه على أهمية محبة ونور حضرة عبدالبهاء لحياته من خلال استخدام مثال النور وأهميتها لحياة الوردة يمكنها أن تساعده على إدراك مفهوم الموت الذي يتحدث عنه حضرة بهاءالله في كلماته المكنونة: "أِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِيكَ بَغْتَةً". فكما تذبل الوردة إن حُرمت من محبة الشمس ونوره، يذبل قلب الإنسان ويموت في الظلام إن اتجه بمرآة قلبه بعيدا عن أنوار المحبة الإلهية. يتفضل حضرة بهاءالله في الكلمات المكنونة العربية: " يَا ابْنَ العَماءِ ، أَدْعُوكَ إِلى الْبَقَاءِ وَأَنْتَ تَبْتَغِي الْفَنَاءَ، بِمَ أَعْرَضْتَ عَمَّا نُحِبُّ وَأَقْبَلْتَ إِلى ما تُحِبُّ". يحب كل أب وكل أم أن يعيش طفلهما سالما معافيا سعيدا محفوظا من كل شر وسوء، لا يتمنى اي أبٌ وأمٌ في هذا الوجود الموت لطفلهما، بل إن أغلبنا يدعو الله أن يكون يوم موتنا الجسدى من هذا العالم الترابي قبل الموت الجسدي لطفلنا لأننا في أعماق وجودنا نتمنى لطفلنا الخلود والبقاء حيا إلى ذلك الأبد الذي لا نهاية له. مع كل هذا الحب الذي نكنه لطفلنا، كيف ننسى أن نحميه من هذا الموت الذي حذرنا من بغتيته حضرة بهاءالله ؟ يمتلك الوالدان مصير حياة طفلهما أو موته بيديهما ، ويمتلكان القدرة على ابقائه حيا وانقاذه من ان يبتغي الفناء " أَدْعُوكَ إِلى الْبَقَاءِ وَأَنْتَ تَبْتَغِي الْفَنَاءَ". أقسى ألم قد يواجهه أي أب أو أم هو أن يشهدا موت فلذة كبدهما. ولكن أقسى من هذا الألم هو أن يكتشفا أنه كان بامكانهما انقاذه من موته ولم يفعلا ذلك وأنه كان يقع على عاتقهما مسؤولية حمايته من موته وقد فشلا في حمايته
يدعو كل منّا الله يوميا في سرّنا وجهرنا كي يحفظ لنا طفلنا ويحميه من كل شر وسوء. ومن أجل هذا الحفظ ( سواء أكان حفظنا أو حفظ طفلنا)، ينصحنا الله تعالى بالمحاسبة اليومية للنفس. ينصحنا سبحانه بذلك لأنه يحبنا حيث ذكر في الكلمات المكنونة العربية" أحببتُ خلقك فخلقتك" ولأنه يريد أن يحمينا من " الموت بغتة". وحيث أننا خلقنا مرايا نعكس هذا الحب الإلهي لأطفالنا، إذن يقع على عاتقنا لوحدنا تربية طفلنا بحيثية تنغرس فيه ملكة محاسبة النفس كي تحميه المحبة الإلهية من أن يموت بغتة