منهجية التربية
كنت قد كتبت بالنّسبة للأطفال، يجب تربيتهم من بداية الأمر تربية إلهيّة وتذكيرهم دائمًا بذكر الله حتّى تترسّخ محبّة الله في جِبِلَّتِهم وتستقرّ وتمتزج بحليب الأمّ
منتخبات من مكاتيب عبد البهاء، طبع الولايات المتّحدة، الصّفحة 124
تربية الطفل تحتاج إلى رؤية واضحة ومنهجية محددة المعالم من قِبل الوالدين بصفة عامة والأم بصفة خاصة من أجل ضمان تحقيق الأثر المطلوب. تختلف الرؤى من فرد لآخر، كلٌّ على حسب بيئته وآماله وإعتقاداته، ولكنها تتوحد في نقطة مصيرية ترتكز أساسا على أهمية التخطيط العملي والمتابعة والإستمرارية دون كلل وملل لتحقيق الرؤية المنشودة والوصول إلى نتائجها المؤثرة. يملك الوالدان قبل ولادة مولودهما تصوير عام حول النحوية التي يرغبان بأن يربيا فيها طفلهما سواء من الناحية المعنوية أو المادية؛ وفي أغلب الأحيان تشكل هذه التصاوير العامة، خصوصية التربية الأسرية التي ينشأ على أساسها الطفل وتحدد من خلالها سمات هويته وشخصيته وملكاته. من هنا تنبع أهمية اختيار منهجية محددة الملامح يتبعهما الوالدان بوجه عام والأم بوجه خاص صوب خلق الهوية البهائية كجزاء لا يتجزأ من ذاتية طفلهما. تستطيع الأم اختيار الكلمات الإلهية التي ترغب بأن تتشرب منها وجودية طفلها وترسم له ملامح شخصيته وتكوينه الذاتي، وتبدأ بتلاوة هذه الآيات له وهو مازال في عالم الرحم أو بعد ولادته بأيام قليلة وتستمر إلى أن يشد عوده ويتعلم الكلام فيحفظها ويتلوها بنفسه
على سبيل المثال، في الأشهر الأولى من حملي بابني بدأت ملامح رؤيتى الذاتية تتوضح شيئا فشيئا حول الحماية والرعاية التي أرغب بتوفيرها وتهيئتها لطفلي لحظة أن أحضنه بين ذراعي وطوال سنوات عمره. يتفضل حضرة بهاءالله في الكلمات المكنونة الفارسية ما ترجمته " يا ابن التّراب.. لك قدّرت جميع ما في السّموات والأرض! إلا القلوب فقد جعلتها منزلاً لتجلّي جمالي وإجلالي". رؤيتى ارتكزت على ثلاث محاور أساسية اخترتها لأرسم على ضوئها منهجيتى في تربية طفلي اتجاه هويته الإنسانية بشكل عام وهويته البهائية بشكل خاص. ومن هنا بدأتُ مشواري مع طفلي. أحلم له عندما يشتد عوده بأن يمتلك الدنيا بما فيها ولكن يحتفظ بقلبه ملكيّة خالصة يستقر بها حضرة بهاءالله. وأتمناه أن يشعر دائما بالسعادة في كل لحظات وجوده وفي كل مراحله العمرية رغم معرفتي بأن هذه الدنيا هي دار ابتلاء وشقاء، وربما في الواقع لتأكدي من أن هذه الدنيا تملأ القلوب بالحزن أكثر من السعادة. وأرغبه سالما آمنا محميا في كل ثانية يعيشها في حياته. ورغم نيران الحنين بأحشائي لأحتويه في أحضاني وأحميه برموش عيني وبقوتي وضعفي من كل ألم وحزن وتهلكه إلا أني أعلم علم اليقين بأني لن أستطيع أن احميه بوجودي من جميع المخاطر والشرور
هكذا دفعني حبي الأزلي لطفلي ورغبتي الأبدية في سعادته وسلامته ورجائي له بإدراكه لكُنهية وجوده والهدف من خلقته؛ دفعني هذا إلى اختيار المحاور التالية أساسا أشيد عليه منهجيّة محددة المعالم لنشأته وتربيته
ترتكز محور وجوديته الإنسانية على -
يَا ابْنَ الرُّوحِ
فِي أَوَّلِ القَوْلِ امْلِكْ قَلْباً جَيِّداً حَسَناً مُنيراً لِتَمْلِكَ مُلْكاً دائِماً باقِياً أَزَلاً قَدِيما
ليحقق الهدف الغائي من خلقته ويشعر بالسعادة مدى الحياة -
يَا ابْنَ الإِنْسانِ
افْرَحْ بِسُرُورِ قَلْبِكَ، لِتَكُونَ قابِلاً لِلِقائِي وَمِرآةً لِجَمالِي
في جميع الحالات والظروف على مر الأيام والسنين -
يَا ابْنَ الوُجُودِ
حُبِّي حِصْني مَنْ دَخَلَ فِيهِ نَجا وَأَمِنَ وَمَنْ أَعْرَضَ غَوَى وَهَلَكَ
فبدأتْ رحلتي مع طفلي بهذه الآيات الثلاث التي كنت أتلوها على مسامعه ليل نهار، عندما أرضعه، عندما أغير حفاظاته، عندما أحممه، عندما ألاعبه، عندما أخرج للتنزه معه، وعندما ينام في حضني. كنت أرتل على مسامعه أدعية وأشعار وألواح أخرى تختلف من يوم لآخر على حسب الإختيار ولكن بقيت الآيات الثلاث منهجا أساسيا وثابتا في برنامجي اليومي في ثلاوة المناجاة والألواح والأشعار لطفلي. كنت بعد كل مرة أتلو له هذه النصوص الثلاثة بنصها حتى ترتبط روحه منذ الصغر بنور الكلمة الإلهية؛ أنغنغه بلغتي الأرضية المغلفة بدفء الأمومة عن معاني هذه الكلمات الإلهية وعن قلبه الذي أتمناه مسرورا إلى أبد الآباد
من المهم جدا أن يمتلك الوالدين بصفة عامة، والأم بصفة خاصة، رؤية واضحة ومنهجية محددة الملامح حول نوعية الصفات والكمالات والأخلاق الإنسانية التي يرغبان لوليدهما بأن يُنشأ عليها. الطفل لا ينمو في فراغ ومن فراغ؛ فكل ما يحيط به يؤثر على هويته وتكوينه الذاتي ويترك بصماته على روحه وقلبه ووجوده. فعلى سبيل المثال، تختلف حالات الطفل الذي يعيش وينمو في بيئة تتحكم فيه العنف وسوء المعاملة مع حالات طفل آخر يعيش في بيئة آمنة مليئة بالحب والحنان. وبالقياس على هذا، تختلف حالات الطفل الذي يعيش في فراغ روحاني ويُحرم من ارتباط قلبه مع حضرة بهاءالله مع حالات طفل آخر تشربت وجوده من معين الكلمات الإلهية منذ بدء خلقته. كل يوم يعيشه الطفل في هذه الدنيا، سواء أكان في الرحم أو خارجه، له أهميته في تربيته الروحية واحتياجه الفطري إلى التواصل والإرتباط مع خالقه