أَحْبَبْتُ خَلْقَكَ فَخَلَقْتُكَ
يتفضل حضرة بهاءالله
أصْلُ الخُسْرَان ، لمن مَضَتْ أيّامُهُ و ما عَرَفَ نفسه
أدعية حضرة محبوب، ص44
حتى سن الثانية لا يدرك الطفل مفاهيم المشاركة أوالتعاون عندما يلعب مع طفل آخر، فهو منذ ولادته وحتى وصوله إلى هذه المرحلة العمرية تتمركز جميع قدراته حول اكتشاف وجوديته، فيكتشف يديه ويكتشف رجليه ويكتشف وجهه. وإلى أن يصل الطفل إلى هذه المرحلة المتقدمة من اكتشافه الإبتدائي لذاته، فهو يظن أن كل مايحيط به هي جزء لا يتجزأ من وجوديته. فالطفل في هذه المرحلة العمرية يظن بأن اللعبة التي يلعب بها مثلا هي جزء أساسي من وجوديته مثل يديه أو رجليه. ولهذا يصعب على الأطفال حتى هذه المرحلة العمرية أن يدركوا مفهوم المشاركة وإن كان هذا لا يمنع من تدريبهم عليها حتى يتمكنوا من ممارستها عندما يدخلوا إلى المرحلة العمرية التي تسمح لهم بتحويل المفاهيم التي تربوا عليها إلى حيز التنفيذ. ولكن منذ أن يصبح عمر الطفل ثلاث سنوات فأكثر، يأخذ أغلب الوالدين على عاتقهم مسارا إجتماعيا صارما في تربيتهم لطفلهم. فهم بطريقة أو بأخرى يشعرون بالمسؤولية اتجاه تحويل طفلهم إلى وجودية تتقبلها البيئة الإجتماعية التي ينتمون إليها. وتتخذ هذه التربية مسارين متضادين في ظاهرهما ولكنهما متشابهين في حقيقتهما. فإما أن يتربي الطفل بحيثية تتمحور فيها هويته حول ذاتيته أو أن يتربي بحيثية تتمحور فيها هويته حول ذاتية الآخرين. بمعنى آخر، إما أن يخلق الوالدين من طفلهما كيانا أنانيا يدور أبدا في محورية ذاتيته أو أن لا يخلقا لوجوديته أي كيان فيقضي عمره في التضحية بنفسه من خلال الدوران في محاور الآخرين. تتشكل هوية الطفل تبعا لنوعية المفاهيم التي يتربى عليها وهو في مراحله العمرية الأولية
ففي سن الثالثة مثلا، إذا شجع الوالدان طفلهما على الإحتفاظ بلعبته وعدم مشاركته مع الطفل الآخر الذي يلعب معه، وأيضا إذا شجعاه على ضرب الطفل الآخر إن أصر على أخذ هذه اللعبة من بين يديه فإن محورية الذات التي ترتكز على تدمير الآخر هي أولى بذور هذه التربية. أما إن فرض الوالدان على طفلهما اعطاء لعبته للطفل الآخر دون احترام دموعه ورفضه وبكائه وألمه، وإن منعاه من الدفاع عن نفسه أمام ضربات الطفل الآخر لرغبتهما بأن يتربى على المحبة والإتحاد فإن محورية ذاتية الآخرين هي أولى بذور هذه التربية. يحدد الوالدان نوعية التربية الروحانية التي يرغبان بمنحها لطفلهما في تلك السنوات الأولى الأساسية التي يخلق فيها هويته الوجودية. لا يدرك الطفل في سن الثالثة لماذا يجب عليه أن يتبع نوعية معينة من التصرفات في حين يمنع من القيام بنوعية أخرى من التصرفات. ولهذا وتبعا لقدراته الإدراكية يلجأ إلى تكوين مفاهيمه الخاصة اتجاه عالمه الضيق الذي يعيش فيه، هذا العالم الضيق الذي يشاركه فيه والديه، ومجتمع والديه، وبعض الأطفال الآخرين الذي يختار منهم أصدقاءه. يُكوّن الطفل مفاهيمه حسب الوضعيات والتجربيات اللحظية التي يعيشها منذ أول يوم يفتح فيه عينيه ولهذا إن لم يتخذ الوالدان الخطوات اللازمة للتأثير في نوعية المفاهيم التي يكونها طفلهما والتي تتشكل على أساسياتها هويته الوجودية لحظة بلحظة فإنهما يحرمان طفلهما من تنمية ملكاته الروحانية. ففي المثال السابق، تغرس في الطفل بذور الأنانية أو عدم احترام الذات نتيجة المفاهيم اللحظية التي يكونها من خلال اتباعه لإرادة والديه. فهو لا يعرف مثلا لماذا شجعه والديه على عدم المشاركة بلعبته، وبذلك يظن بأن عدم المشاركة هي القاعدة الأساسية التي يتخذها في علاقاته مع الآخرين. ولكن، ماذا لو أن الوالدين رغبا باحتفاظه بلعبته لأن الطفل الآخر اتبع أسلوبا هجوميا ولم يستأذن طفلهما في مشاركته للعبته أو أنه طفل يعرف عنه بتكسيره وتحطيمه للعبه ولعب الأطفال الآخرين. لن يعرف الطفل لماذا عليه القيام بهذا التصرف أو عدم القيام بهذا التصرف إن لم يشرحه له والداه ذلك بوضوح وجلاء. يحتاج الطفل في السنين الأولية من عمره إلى درك حيثيات المفاهيم وتشرب معانيها في وجوديته أكثر من أن يعرف الخطأ والصواب في سطحيةٍ مجردة تتحكم في تصرفاته من خلال : افعل هذا أو إياك أن تفعل هذا
من أولى الملكات الروحانية التي يجب أن يتعلمها الطفل منذ اللحظة الأولى لولادته هي أنه كيان عزيز على حضرة بهاءالله "أحببت خلقك فخلقتك". تبدأ ذاتية الطفل منذ أن تبدأ بهذا الحب ومن أجل هذا الحب ولهذا الحب. يكفي أن يربي الوالدان طفلهما على إدراك هذا الحب الذي خُلق وبُدأ منه حتى يعكس نور هذا الحب في جميع مراحل حياته في وجوديته الذاتية وفي علاقاته مع الآخرين، في هويته الفردية وفي هويته الإجتماعية. يُركز الوالدان في تربية طفلهما على مبادئ المحبة والإحترام، محبة الآخرين واحترام الآخرين، ولكن إذا تفكرنا بعمق في كلمات حضرة بهاءالله، يبدأ هذا الحب وهذه المحبة أول ما تبدأ في الكيان الذاتي للطفل، فهذا الخطاب موجهٌ مباشرة إلى وجودية الفرد وليس إلى وجودية الآخرين، فعلى سبيل المثال، لم يقل حضرة بهاءالله أحببت الآخرين ولهذا خلقتك من أجل حبي لهم، ولم يقل أيضا أحببت خلقك فخلقت الآخرين من أجلك، أو أي شئ آخر من هذا القبيل بل تفضل حضرته "أحببت خلقك فخلقتك". من إحدى النتائج المباشرة لتربية طفلنا على إدراك هذا الحب، هي أن يحب نفسه في كينونته الروحانية وأن يحترم وجوديته كانسان. محبة الآخرين واحترامهم تبدأ اول ما تبدأ من محبة وجوديتنا الروحانية واحترام ذاتيتنا النورانية. إذا لم يتربى الطفل على إدراك مفهوم هذا النص المبارك في السنين الأولى من ولادته، قد يواجه في المراحل العمرية المتقدمة للإساءة والإعتداء والظلم ولأنه لا يدرك مدى الحب الذي خلق منه وله وبه، إما أن يعيش هذا الإعتداء الذي يمارسه الآخر أو الآخرين عليه بصمت وسلبية تحوله إلى حطام بشري ، أو أن يعتنق خاطئا مبدأ إثميته ويعتقد بأنه صاحب الذنب ويستحق الإحتقار، أو ان يظن بأن وجوديته انعكاس لممالك الظلام بدلا من تدرّجات العوالم النورانية. يخشى الوالدان إن ربيا طفلهما على حب النفس أن ينشآ منه كائنا أنانيا، فيبدآن أول ما يبدآن بتربيته على تهميش نفسه وتعظيم وجوديات الآخرين لرغبتهما أن يتعلم محبة الآخرين منذ نعومة أظافره ويتعلم السلام والمشاركة والتعاون و... جميع هذه الأخلاقيات النورانية التي تتمركز عليها مبادئ الديانة البهائية، على سبيل المثال: وحدة العالم البشري
ولكن، من أين تبدأ حقا وحدة العالم البشري؟ هل تبدأ من الحب؟ حب من لمن؟ وما نوعية هذا الحب؟ تبدأ وحدة العالم البشري من الخطاب المباشر الذي يوجهه حضرة بهاءالله إلينا "أحببت خلقك فخلقتك"؟ تبدأ وحدة العالم البشري من ذاتية الفرد، الذاتية النورانية التي أحبها حضرة بهاءالله، فخلقها. هذه هي الذاتية التي يجب على الوالدين أن ينمياها في طفلهما، هذا الحب هو حجر الأساس الذي على الوالدين أن يرتكزا عليها في تربيتهما لطفلهما. عندما يتعلم الطفل أنه خُلق فقط وفقط لأن حضرة بهاءالله أحبه فإن هذا يؤدي أولا إلى احترام نفسه والمحافظة على سلامته من المهالك وأصدقاء السوء، وتؤدي أيضا إلى تعميق رغبته بالإحتفاظ على رضاء حضرة بهاءالله منه من خلال اتباع نصائحه وتعاليمه، وتودي أيضا إلى إحترام الآخر في شتى هوياته وأشكاله لأنه يعلم بأن هذا الآخر هو أيضا مُخاطب من قِبَلِ حضرة بهاءالله في هذا النص: "أحببت خلقك فخلقتك". فكيف يمكنه أن لا يحب وأن لا يحترم من يحبه حضرة بهاءالله ومن هو أيضا خاطبه حضرته قائلا "أحببت خلقك، فخلقتك". هنا يبدأ الحب، هنا تبدأ الوحدة
بعد أن يتأكد الوالدان بأنهما قد غرسا في أعماق طفلهما مفهوم حب واحترام الذات بالكيفية التي تعكس أنوار الحب الإلهي ، يستطيع الوالدان استخدام مثال قوس قزح لتعميق مفهوم هذا الحب والخصوصية الجمالية التي يملكها كل كيان في وجوديته الذاتية من جهة وفي جمالية هذه الذاتية في اتحادها مع الوجوديات الذاتية الأخرى في كينونة انسانية متوحدة. ففي قوس قزح، يملك كل لون خصوصياته الذاتية وجماليته الشخصية. جمالية الأحمر يختلف عن جمالية البنفسجي ولكن لا يغطي أحدهما على الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر من أجل الإستيلاء على حيزه الوجودي، ولا يضحي أحدهما بذاتيته ويتلاشى في الآخر. يملك كل لون في قوس قزح حيزه الشخصي الوجودي الذي ينفرد فيه بخصائصه المميزه، ويملك كل لون جمالية تضيف على الخصوصية الجمالية الكلية لقوس قزح دون أي زيادة أو نقصان. وكما أنه لن ينوجد في السماء قوس قزح إذا قررت إحدى الألوان بالإعتداء على الألوان الأخرى والإستيلاء على حيزهم، يستطيع الوالدان أن يساعدا طفلهما على إدراك أهمية خلقته كخصوصية مميزه تضيف على جمالية هذا العالم وكذلك ادراك أهمية خلقية الآخر في خصوصيته المميزة أيضا. عندما يشرح الوالدان لطفلهما جمالية وجوديته من خلال استخدام مثال قوس قزح، يجب عليهما بداية أن يذكرا بالتفصيل جمالية وخصائص كل لون على حدة بحيثية يجعل الطفل يعشق كل لون وينجذب لخصائصها الجمالية
يستطيع الوالدان في هذه المرحلة أن يطلبا من طفلهما بتلوين لوحات كبيرة بحيث يستخدم في كل لوحة لون واحد من ألوان قوس قزح الجميلة حتى يتشرب كيان الطفل من جمالية كل لون على حدة. ثم يطلب الوالدان من طفلهما برسم صورة كبيرة جدا لقوس قزح وتلوينها بالألوان التي تتكون منها. ثم عندما ينتهي الطفل من تلوين قوس قزحه يطلبان منه أن يتخيل ماذا سيحدث لقوس قزح إن اعتدى الأحمر على حيز الألوان الأخرى وحوّل قوس قزحنا إلى قوس أحمر فقط. ثم، وهنا يجب أن يعيد الوالدان هذا السؤال أكثر من مرة حتى يتأكدا من استيعاب طفلهما لمفهوم الإحترام بشقيه: إحترام الذات وإحترام الآخر. فيسألاه أولا، ماذا سيحدث لك إن كنت أنت اللون البنفسجي وكان صديقك (س) اللون الأحمر وقرر (س) الإعتداء على وجوديتك وحيزك الإنساني؟ ومن خلال هذا السؤال يشرح له الوالدان أهمية المحافظة على نفسه واحترام حب حضرة بهاءالله الذي يُعتبر مبدأً لخلقته. ثم يسأله الوالدان السؤال التالي: ماذا لو كنت أنت اللون الأحمر وتصرفت مثله، على ماذا يدل تصرفك هذا وماذا سينتج عنه؟ هل بتصرفك هذا تعكس حب حضرة بهاءالله الذي خُلقت منه ولأجله؟ ثم يحضر الوالدان لوحات كبيرة ويقصانها على هيئة قوس. من المستحسن أن تكون عدد اللوحات ثمانية لوحات كبيرة. يشرح الوالدان للطفل بأن يلون سبعة لوحات من هذه اللوحات بلون واحد فقط من ألوان قوس قزح، فيلون مثلا اللوحة الأولى التي قصها على شكل قوس باللون الأحمر، واللوحة الأخرى بالبنفسجي، والثالثة بالبرتقالي وهكذا. يسأل الطفل أي لون يرغب بأن يمثله من ألوان قوس قزح السبعة . ويجب أن يختار الطفل لونا واحدا فقط ويستحسن أن يكون هذا اللون من أحد الألوان التي يحبها كثيرا حتى تتبلور مفاهيم هذا النشاط في ذهنيته بوضوح وجلاء. على سبيل المثال يختار الطفل أن يكون هو اللون البنفسجي، وهنا يُسأل الطفل عند تلوينه لكل لوحة أحد السؤالين السابقين على حسب اللون الذي يُلون اللوحة بها: ماذا لو كان صديقك (س) هو هذا اللون؟ ماذا سيحدث هنا لك أنت الذي تمثل اللون البنفسجي؟ وسيجد الطفل الجواب ماثلا أمامه بوضوح في هذه اللوحة، لن يرى أي أثر لنفسه (لن يكون للبنفسجي من وجود في هذا القوس). وفي النهاية عندما يبدأ بتلوين قوسه باللون البنفسجي يُسأل، ألا تظن أنك تحب أيضا اللون الأحمر والبرتقالي وكل الألوان الأخرى؟ لماذا يجب أن نقضي على جمالية قوس قزحنا بتحويله فقط إلى لون واحد يعكس وجوديتنا دون وجوديات الألوان الأخرى؟ هل تظن أنك تحب أن ترى في السماء قوس قزحا بنفسجيا فقط أم تريد أن ترى البنفسجي والألوان الأخرى جميعها مع بعض؟ معظم الأطفال يجيبون بأنهم يحبون أن تحتفظ قوس قزح بجميع ألوانها السبعة وأنها جميلة لأنها تتشكل من هذه الألوان كلها مع بعض وليست لأنها تحتوي على لون واحد فقط. هنا نحضر للطفل اللوحة الثامنة ونطلب منه بأن يرسم قوس قزح كما يشاهده في السماء وكما يحبه هو بانعكاسات ألوانه السبعة
|
|
|