سَمْعُكَ سَمْعِي ...وَبَصَرُكَ بَصَرِي
يَا ابْنَ العَرْشِ
سَمْعُكَ سَمْعِي فَاسْمَعْ بِهِ، وَبَصَرُكَ بَصَرِي فَأَبْصِرْ بِهِ؛ لِتَشْهَدَ فِي سِرِّكَ لِي تَقْدِيساً عَلِيّاً، لأَِشْهَدَ لَكَ فِي نَفْسي مَقاماً رَفِيعاً
حضرة بهاءالله، الكلمات المكنونة العربية ص. 21
|
|
يتفضل حضرة عبدالبهاء في إحدى أدعيته المباركة التي نزلت من أجل أن يتلوها الأطفال : " رَبَّنا إِنَّا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَنَتَضَرَّعُ إِلَى مَلَكُوتِ رَحْمَانِيَّتِكَ أَنْ تَجْعَلَنا سُرُجَ الهُدَى وَنُجُومَ أُفُقِ العِزَّةِ الأَبَدِيَّةِ بَيْنَ الوَرَى". كل طفل يعتبر بمثابة نجمة في حقيقة كينونته الإنسانية ، ويعتبر النورمن أهم الخصائص الوجودية التي تُحدد بها هوية النجوم، لذا فإن كل طفل خُلق نورا في هويته ويقع على الوالدين مسؤولية تربية هذه الملكة الوجودية في طفلهما حتى تسطع نورها في جميع أرجاء هذا الكون
ينمو الطفل في ملكاته الحسيّة وملكاته الروحانية منذ اللحظات الأولى لنشأته الوجودية في رحم الأم. وتعتبر السنوات الأولى وحتى سن السادسة من أهم السنوات التي تقع فيها على عاتق الوالدين مسؤوليتهما الجسيمة اتجاه تنمية ملكات طفلهما وتوفير الرعاية التربوية الضرورية التي يحتاجها الطفل لتطوير خصائص وجوديته الإنسانية. في هذه المرحلة، يملك الطفل في ذاتية خلقته الخاصية الحسية للتذوق مثلا، ولكنه يحتاج إلى رعاية والديه لتربية قدراته الحسية في هذه الخاصية. فإن تجاهل الوالدان احتياجات طفلهما في هذا المجال وحرماه من التربية الحسية التي تتطلبه تنمية هذه الخاصية في وجودية الطفل وذلك من خلال تعريفه على أنواع الاطعمة المختلفة ومساعدته على تحديد المذاقات المالحة والحلوة والحامضة والمرّة فسيكبر الطفل وهو فاقد المهارات اللازمة التي يستطيع الإستناد عليها لإستخدام ملكة حاسة التذوق عنده
بطبيعة الحال، فإن الطفل يملك في ذاتيته الوجودية تلك القدرة على التمييز باختلاف المذاقات دون مساعدة الوالدين، فعلى سبيل المثال عندما يأكل قطعة من الجبن المالح وقطعة أخرى من الشكولاتة، فهو يملك هذه الملكة الفطرية في تكوينه الوجودي ليعرف باختلاف هذين المذاقين عن بعضهما البعض، ولكنه لن يعرف أبدا كنهية المذاق الأول (المالح) والمذاق الثاني إن لم يُوجهه والداه إلى هذه المعرفة. كما أنه لن يعرف أبدا من أين جاء الملح، وما هي الأطعمة الأخرى التي تعتبر مالحة في مذاقها، وأيضا لن يعرف أبدا بفوائد الملح وأضراره . خلاصة القول، أن الطفل يملك في نشأته المبدئية تلك القدرات الفطرية لإستخدام ملكاته الحسية بحيثية تضمن له البقاء ولكنه لا يملك أي قدرات وجودية ذاتية في تنمية ملكاته الحسية بنحوية تتناسب واحتياجاته العمرية المتقدمة. كل طفل يحتاج إلى التربية، إلى من يساعده في تنمية وتطوير ملكاته الحسية الوجودية. يتشابه تنمية حاسة التذوق عند الطفل كتعليم الطفل القراءة مثلا. فرغم أن كل طفل يملك في وجوديته الفطرية تلك الخاصية التي تساعده على القراءة، إلا أنه لا يوجد طفل في هذا العالم استطاع أن يتعلم القراءة دون مساعدة مربيٍ (حتى وإن تعلّم من خلال جلوسه الطويل أم التلفزيون أو الكمبيوتر، فالتلفزيون والكمبيوتر يعتبران هنا ذلك المربي)، فالفطرة خُلقت فيه ولكنه يحتاج إلى ذلك المربّي الذي يساعده في تطوير فطرته بحيثية تجعله يفك الخط ويقرأ أعظم ما كتب في التاريخ البشري
يدعوا الأطفال على لسان حضرة عبدالبهاء كي يصبحوا " سُرُجَ الهُدَى وَنُجُومَ أُفُقِ العِزَّةِ الأَبَدِيَّةِ". ولكن، كيف للطفل الذي لا يستطيع تطوير ملكة التذوق بنفسه لنفسه، ولا يستطيع أن يتعلم القراءة بنفسه لنفسه، كيف يستطيع هذا الطفل أن يصبح سراجا ونجما بنفسه لنفسه؟ قد يتناسى الوالدان في خضم مسؤولياتهما أن تلاوة طفلهما لهذا الدعاء هي في الواقع تمثل مناجاته لوالديه كي يساعداه في تنمية نوريته الفطرية بحيثية وجودية تجعله قادرا على انارة كل " الوَرَى". قد يرغب الوالدان، أن يعيدا تلاوة هذا الدعاء المبارك الذي أنزله حضرة عبدالبهاء بنحوية جديدة. يستطيع كل أب وأم أن يحدد من خلال هذه المناجاة مسؤوليته الروحانية الجسيمة اتجاه فلذ كبده، إلى ذلك النجم السماوي الذي يعيش معهما في البيت ويناجي والديه يوميا كي يساعداه في تطوير خاصية نوريته
ولكن ، كيف يمكن تربية الأطفال بحيثية يصبحوا فيها " سُرُجَ الهُدَى وَنُجُومَ أُفُقِ العِزَّةِ الأَبَدِيَّةِ". كما ذكرنا سابقا، تعتبر المراحل الأولية من سنين نشأة الطفل من أهم السنوات التي يجب فيها تنمية الملكات الحسية في الطفل. تعتبر هذه السنوات أيضا من أهم السنوات التي يجب فيها تنمية الملكات الروحانية في وجودية الطفل. ويستطيع الوالدان القيام بتربية الهوية البهائية في طفلهما من خلال ادماج التنمية الحسية مع التنمية الروحانية في الآن ذاته بحيث يصبح الحس مرآة للروح والعكس صحيح. يتفضل حضرة بهاءالله في الكلمات المكنونة العربية "سَمْعُكَ سَمْعِي فَاسْمَعْ بِهِ، وَبَصَرُكَ بَصَرِي فَأَبْصِرْ بِهِ". السؤال الذي يطرح نفسه هنا عند قراءتنا لهذه الآية المباركة: تُرى ماذا يرى حضرة بهاءالله ببصره وماذا يسمع بأذنه؟ ويجب أن يبحث الوالدان عن جواب لهذا السؤال في اليوم الأول التي تنشأ فيها نطفة طفلهما حتى يصبح بامكانهما تربيته بتلك الكيفية التي تحول سمعه إلى سمع حضرة بهاءالله وبصره إلى بصر حضرة بهاءالله. تُرى ماذا يشاهد حضرة بهاءالله ببصره؟ تُرى ماذا شاهد سيدنا عيسى ببصره عندما صادف في طريقه تلك الجيفة الميتة؟ تُرى ماذا يجب علينا أن نسمع إذا كان هذا الأذن الذي يعلو وجهنا هو أذن حضرة بهاءالله وماذا يجب علينا أن نفعله حيال تربية طفلنا بتلك النحوية التي تجعله يقدس أذنه من كل شائبة تدنسه ، فحقيقة الأمر أن وجهه تتزين بأذن حضرة بهاءالله. فما الذي تسمعه هذه الأذن المقدسة السماوية؟ تقع الوظيفة الروحانية في اكتشاف هذا الجواب على عاتق كل والدين منحتهما السماء نجمة تنمو في بيتهما
من بعض الأنشطة التي يُستطاع من خلالها تربية الطفل على إدراك قدسية ملكاته الحسية في انعكاساتها الروحانية هي سؤاله عن الأشياء التي يحب أن يشاهدها بعينيه وكذلك تلك الأصوات التي يحب أن يسمعها بأذنيه ثم مساعدته على التمييز بين مواقف وأصوات وأشياء إيجابية وسلبية من الواقع المعاش، ثم إعادة هذا السؤال عليه عند كل موقف أو وصف: هل تظن بأن عينك تحب أن تشاهد هذا المنظر؟ هل تحب أن يسمع أذنك هذا القول أو هذا الصوت مثلا؟ في المرحلة اللاحقة نسأل الطفل بأن يصف احساسه في حال مشاهدته للمواقف الإيجابية أو استماعه للأصوات الإيجابية أو الجميلة، وكذلك بأن يصف مشاعره اتجاه مشاهدته للمواقف السلبية أو استماعه للأصوات المؤذية. ونسأله: هل تشعر بأن السعادة التي تملأ قلبك وكأنك دخلت غرفة مليئة بالنور وذلك الحزن الذي تمتلأ بها نفسك عندما تشاهد شيئا سلبيا أو تصل إلى أذنيك صوتا خشنا قاسيا وكأنك حُبست في غرفة مظلمة أطفئت فيها جميع الأنوار؟ وهكذا تدريجيا نساعد الطفل في أن يربط أحاسيسه الإيجابية بجمالية النور وإشراقاتها على قلبه في حين يعكس حزن أحاسيسه في المواقف السلبية بسوداوية الظلام وحلكة الليل
في هذه المرحلة يُطلب من الطفل بأن يرسم أربعة لوحات منفصلة تمثل كل لوحتين إحدى الحاستين، السمع والبصر. ففي الأولى يرسم الأصوات الإيجابية التي إن سمعها شعر بالنور في قلبه، وفي الثانية تلك الأصوات القاسية الخشنة التي إن استمع إليها أحس بالحزن. ويرسم في الأخرى، الأشياء التي تشعره بالسعادة إن نظر إليها وشاهدها، وفي الثانية تلك المواقف والتجربيات التي إن وقعت بصره عليها أشعره بحزن مرير وكأنه سجينٌ في غرفة مظلمة. وبعد أن يرسم الطفل لوحاته الأربعة ، نحاول أن نعمق فيه احساسه بمسؤوليته اتجاه قدسية حواسه . فعلى سبيل المثال نسأله هل تشعر بالسعادة إن رأيت المحبة والإتحاد أم تشعر بالحزن؟ بطبيعة الحال سيجيب بأنه يشعر بالسعادة. هل تظن بأن هذه النبته (ونشير إلى نبتة ما أمامه) تشعر بالسعادة لأنها تمتلك كل أوراقها على هذا الغصن؟ وهل تشعر بالسعادة لأنك تشاهد سعادة هذه النبتة؟ وهل تظن بأن الأوراق في هذه النبتة تحب بعضها البعض؟ وهل تظن أنك كنت ستشعر بالسعادة إن شاهدت بعينيك بأن أوراق هذه النبتة بدأت بالتشاجر وبالتساقط واحدة تلو الأخرى من غصنها إلى الأرض ؟ ماذا لو كنا نحن البشر مثل هذه النبتة؟ هل تحب أن تشاهد بعينك صديقك (س) يعيش بجانبك على الغصن نفسه؟ و ماذا عن (ص)، الذي لا تعرفه، هل تحب أن تشاهده بجانبك على هذا الغصن؟ ماذا عن أذنك، هل تظن بأنها تتلذذ باستماع ضحكاتكم السعيدة الراضية؟ ولكن، هل تظن بأن عينيك سيشعران بالسعادة إن شاهدتكم تتشاجرون مع بعضكم البعض وتبدأون بالسقوط واحدا تلو الآخر من فوق غصنكم ؟ وهل تظن بأن أذنك سيسعده الإستماع إلى أصواتكم الغاضبة الصارخة ؟ وبعد أن نمنح الطفل ما يحتاجه من الوقت كي يتخيل نبتته نساعده في أن يرسمها ويلونها ويقصها ويلصقها، ونقول له: تذكر ماذا تريد أن تشاهد بعينك وتسمع بأذنك إن كنت تعيش على أحد أغصان هذه النبتة
هُوَ اللهُ . إِلهِي إِلهِي هؤلاءِ الأَطْفالُ فُرُوعُ شَجَرَةِ الحَياةِ وَطُيُورُ حَدِيقَةِ النَّجَاةِ، لآلِئُ صَدَفِ بَحْرِ رَحْمَتِكَ وَأَوْرَادُ رَوْضَةِ هِدَايَتِكَ. رَبَّنا إِنَّا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وَنَتَضَرَّعُ إِلَى مَلَكُوتِ رَحْمَانِيَّتِكَ أَنْ تَجْعَلَنا سُرُجَ الهُدَى وَنُجُومَ أُفُقِ العِزَّةِ الأَبَدِيَّةِ بَيْنَ الوَرَى وَعَلِّمْنا مِنْ لَدُنْكَ عِلْمًا يا بهاءَ الأَبْهى. ع ع