تعتبر المرحلة العمرية بين الثانية عشرة والخامسة عشر من أهم المراحل العمرية التي سيمر بها أطفالنا، ومن الحكمة أن يطور كل والدين من ذاتيتهما بحيثية تتوافق واحتياجات طفلهما في هذه المرحلة ليكونا قادرين على احتوائه والسير معه يدا بيد في دربه صوب البلوغ. أغلبنا قد سمع وقد تعرف عن قرب على برامج الناشئة ضمن منهاج روحي المتخصصة لهذه الفئة العمرية والتي تهدف إلى مرافقة الناشئ في رحلته من الطفولة صوب البلوغ خطوة بخطوة ليس فقط لتحميه من وحشته ووحدته وخوفه وحيرته واحساسه بالضياع بل لتساعده على صقل مشاعره وقولبة افكاره ولغته وأعماله وتشعره بقدسية كينونته الانسانية وتعرفه على ذاتيته الروحانية. أغلبنا قد سمع عن هذه البرامج، وقد يشعرنا هذا بالاطمئنان على مصير اطفالنا عند وصولهم لهذه المرحلة العمرية لأنا واثقين بأن هناك مجموعة لا بأس بها من المتدربين على برنامج الناشئين سيلتقي بهم طفلي او طفلك وسيحتووه في رحلته المصيرية صوب البلوغ
طفلي مازال في الثامنة من عمره، ولست قلقة من وصوله إلى سن الثانية عشرة بمثل قلقي عليه الآن وهو في مرحلة طفولته. وغالبا مثل أكثر أفراد المجتمع أشعر أن مرحلة سن الناشئة تحتاج إلى ناسها، وبأنني لا أملك من المؤهلات الضرورية للتعامل مع احتياجات هذه المرحلة العمرية. وهكذا من جهة أشعر بالارتياح والاطمئنان بأن طفلي عندما سيصل إلى الثانية عشر من عمره سيجد في مجموعات روحي للناشئة خارطة طريقه صوب مرحلة البلوغ، ومن جهة أخرى أشعر بأني أقوم بوظيفتي الإجتماعية والروحانية عندما أخبر عن منهاج روحي للناشئين كل والدين يبحثان عن حل ينقذان به طفلهما الناشئ من ضياعه في دروب هذه المرحلة العمرية، وأساعدها في ايجاد هذه المجموعة أو تلك المجموعة إن أحبا لطفلهما أن يلتحق بمنهاج روحي للناشئة. خلاصة القول، لم أجد يوما في نفسي الشجاعة أو الكفاءة لأمشي مع طفل ناشئ رحلته صوب البلوغ، أخاف الفشل. هذه ليست حكايتي فقط، بل إنها حكاية معظم الناس التي نلتقي بهم، وقد تكون حكايتك أيضا، ولهذا ارتأيت أن أشارك بتجربتي هذه هنا، لأن خوفي من الفشل، واحساسي بعدم قدرتي على التعامل بحكمة مع احتياجات الطفل الناشئ في هذه المرحلة العمرية الحرجة والمهمة جدا في تاريخه الانساني قد أشلاني لفترة طويلة من الزمن
في خلال احدى زياراتي الاجتماعية، أخبرتني والدة طفلة في الثانية عشرة من عمرها ، والدمع في عينيها والخوف يهز نبرات صوتها، عن عمق قلقها على ابنتها وخوفها وعدم قدرتها على التواصل مع ابنتها. أخبرتني عن صديقات السوء، أخبرتني عن الانترنت ، عن هذا الوحش الكاسر السري الذي يسرق من ابنتها طفولتها، عن المدنية المادية التي تسحب إلى جوفها ابنتها فتجعلها تطلب وتطلب وتطلب مثل تنين شره لا يطفئ ناره شيئا، عن كل الغضب الذي ينفجر براكينا وبراكينا من ابنتها، عن بكائها ويأسها واحساسها بلا جدوية ما تفعله
صدمني هذا الحوار المفتوح الصريح الواضح عن مرحلة عمرية بقيت اتحاشاها وكأني بتحاشيها سانجح بالغائها من حياة طفلي ومن حياة كل اطفال العالم. وبقيت أتحاشاها وكأني بتحاشيها سأمحو من ذاكرتي خوفي من فشلي باحتواء احتياجات طفل ناشئ لا يعرف خطورة ما ينتظره خلال رحلته هذه. صدمني أكثر ما صدمني، أني لم أكن قادرة على أن انصح هذه الأم بارسال ابنتها إلى إحدى مجموعات الناشئين التي تتبع منهج روحي للناشئين، إذ لم ينوجد أي من هذه المجموعات في منطقتها أوفي المناطق المجاورة لمنطقتها. والصدمة التي لحقت هذه الصدمة كانت إنني فشلت أن أضع مثل النعامة رأسي في الحفرة ، فهذه الطفلة مازالت تحتاج إلى من يمشي الدرب معها، وشعرت أن انسانيتي لن تسمح لي بأن اتركها في خوفها رغم أني كنت بنفسي خائفة. وصدمني سماع صوتي أعرض على الأم أن تبدأ معي (انا الخائفة، الغير مؤهلة، الغير واثقة من قدرتي على احتواء احتياجات طفل في هذه المرحلة العمرية)، أن تبدأ معي ابنتها برنامج روحي للناشئين. فرحبت الأم بهذا الاقتراح ترحيبا شديدا ، ولخوفها من أن ترفض ابنتها هذه الفكرة إن جاء الاقتراح من قبل أمها، ترجتني أن أتحدث مع ابنتها واخبرها عن برنامج روحي للناشئين وان ادعوها للالتحاق بهذا البرنامج. وصدمني اقتراح الأم، فبعد أن اخبرتني ما اخبرتني به عن مدى صعوبة التعامل مع ابنتها ومدى عصبية ابنتها ومدى غضبها من كل ما يحيط بها، كيف أجد الشجاعة (انا الخائفة، الغير مؤهلة، الغير واثقة من قدرتي على احتواء احتياجات طفل في هذه المرحلة العمرية) من التحدث مع ابنتها. كنت أفضل أن اقف خلف المدفع وليس أمامه. ووافقت على رجائها ووعدتها بأني سأتحدث مع ابنتها في زيارتي القادمة لهم خلال أسبوع
وقضيت الأسبوع بأكمله في الدعاء، شعرت بالخوف أكثر وأكثر، ماذا لو رفضتني هذه الطفلة الناشئة، ماذا لو تفوهتُ بكلمة لا تتناسب وقواميسها في هذه المرحلة العمرية، خوفي لم يكن من رفضها من أجل نفسي، بل من أجلها، كنت أعلم بأني لا أملك إلا فرصة واحدة معها، فهذا ما أخبرتني به أمها عنها، قالت: إن رفضت شيئا أو لم يعجبها لن يغير رأيها أحد، هي فرصة واحدة فقط تمنحها لأي شئ ولأي انسان. ولذا كنت خائفة من أخسر فرصتي معها فتخسر هي فرصتها في ايجاد من يحتويها ويشعرها بالأمان في هذه المرحلة العمرية الحرجة من رحلتها صوب البلوغ. كانت أقوى مني في قدرتها على رفضي وكنت أقوى منها في عمق حبي لها. ولكن كلينا كنا مكبلتين بالخوف، هي خوفها من أشياء أنا لا أعرفها، وأنا خوفي من عدم قدرتي على احتواء مخاوفها و احتياجاتها
وجاء اليوم الموعود، كان موعدي معها ظهرا، وبقيت ادعو وادعو إلى أن وجدتها واقفة أمامي. هذه الطفلة الجميلة، هذه الفتاة الجميلة، هذه البراءة، هذه الحيرة، هذا الجمال، وشعرت بشوقي لها أقوى من خوفي منها ( خوفي من نفسي ومن عدم كفاءتي). ولم أقل شيئا، فقط حضنتها وحضنتها ، شعرت باشتياقي لها وبحبي لها، ولما لا، فقد احتلت تفكيري أسبوع بأكمله، ادعو لها وأحضر من الكلمات ما يناسب قواميسها. ونسيت كل الكلمات، وجدتها تستجيب لمحبتي ولدفء مشاعري اتجاهها ولصدق عاطفتي لها، فحضنتني وكأنها تعرفني منذ الأزل. كم كان جميل هذا الالتقاء الروحاني بين قلبينا، وكأنها كانت تنتظرني، وكأني وجدتها بعدما أضعتها منذ زمن. فجلسنا وقلت لها عن منهج روحي لبرنامج الناشئين، وقبل أن انتهي من جملتي، أبدت بموافقتها ورغبتها في الالتحاق بهذا البرنامج
مازلت اعلم جيدا ، أنني في مشواري هذا وكأنني أمشي على قشر الموز مع طفلتي الناشئة، ففي أية لحظة قد اسقط من سماها، وفي كل مرة قبل أن ألتقيها ادعو وادعو من أجل أن أنجح في احتوائها
في آخر لقاء لنا بينما كنا نقرأ مع بعض "نسائم التأييد"، الكتاب الأول في منهاج روحي للناشئين ، تحدثنا عن العلاقة بين أفراد الأسرة وعن المحبة، فقالت شيئا مازال يرن صداه في قلبي، قالت: عندما أتحدث، فإن صوتي وكلماتي لا تصل إلى أذن أمي، دائما يصلها شيء آخر، شيء أنا لم أقله ولم أعنيه ولم أقصده، وكأن في أذن أمي آلة تترجم لها صوتي وكلماتي على هواها، ودائما هواها يكون نقيض ما قلته أنا". فسألتها وقلبي يخفق خوفا من سؤالي " وهل لهذا أصبحت صامته، لا تتحدثين مع أحد أبدا؟" فقالت "نعم". عندها أحسست وكأنني أشاهد معجزة سماوية أمام عيني، أن تتحدث معي هذه الطفلة الناشئة عن أعمق أسرارها في لقائنا الثاني، وتكسر حاجز صمتها بينها وبين الآخرين لتتحرك صوبي متخطية حاجزها الذي يحميها والذي يشعرها أيضا بقوتها، فصمتها رفض للآخر الذي لا يفهمها وفي رفضها تمارس قوتها
ثم سألتها سؤال آخر دون أن أعرف إلى أين يقودني هذا الحوار المشوق معها " هل عندك صديقات؟" ، فقالت "نعم، صديقة واحدة فقط في المدرسة". فسألتها " وهل تخبرين صديقتك بتساؤلاتك ، أو بأفكارك أو بما قلته الآن لي؟" فقالت " لا". وهنا توقف قلبي عن الخفقان من شدة شعوري بالخوف، مرة أخرى هذا الخوف الذي بقي يلازمني من البداية( خوفي من نفسي ومن عدم كفاءتي)، هاهي تكسر حاجز وحدتها وتتحرك صوبي وتمسك بيدي وتثق بأن أحتويها في وحدتها وصمتها وتمردها وغضبها. ولرغبتي أن أتعلم المشي معها في رحلتها العمرية هذه صوب مرحلة البلوغ، أحتاج إلى أن أتعرف أكثر وأكثر على خصائص واحتياجات الأطفال الناشئين في هذه المرحلة العمرية، وربما سيزول خوفي من عدم كفاءتي إن استمعت اليهم وإلى كلماتهم ولم أضع في أذني آلة تترجم كلماتهم إلى نقيضها كما هو الحال مع أمها وفي معظم الأوقات معنا نحن البالغون الناضجون أيضا
وشجعني حديثها فاحببت أن أتعرف عن قرب على حديث صمتها الذي لم تخبره أحدا، حتى صديقتها، فطلبت منها أن تكتب لي ثلاث من الأسئلة التي تؤرقها وتتمنى أن تجد أجوبة لها. وكانت هذه أسئلتها " هل تتجسس الحكومة علينا؟ والسؤال الثاني : كل شيء وأي شيء يحدث في حياتي هل هو حقا مقدّر له الحدوث؟ والسؤال الثالث : لكل شيء وأي شيء في حياتي أتساءل إن هو مفيد لصحتي؟ السؤال الرابع : في مواقف مأساوية أو جدية أو مواقف انسانية لا تستدعي الضحك أبدا: لماذا يجد الناس هذا الموقف (الغير مضحك) مضحكا، مثلما عندما يقع احدهم على الأرض وبدلا من أن يساعدوه ، يضحكون عليه؟ والسؤال الخامس: لماذا تحاول أمي أن تتحكم بي، لماذا لا أستطيع أن أكون حرة؟" . من يصدق أنا الخائفة من عدم كفاءتي لاحتواء احتياجات المرحلة العمرية للشباب الناشئ أجد نفسي أمام هذه الأسئلة الوجودية المصيرية لطفلة مازلت في الثانية عشر من عمرها. طفلة تسأل عن القدر وعن الحرية وعن الأخلاقيات وعن ماهو مفيد لصحتها (الجسمية والروحية والإجتماعية و... ). وهي تنتظر مني أن أرشدها، أن أحتويها، أن أساعدها كي تتوصل إلى الحقيقة، إلى المعرفة، إلى الاطمئنان، إلى الأمان، إلى الشعور بأن كلماتها تسمع مثلما هي دون أن تتغير معانيها او تترجم مفاهيمها. أيهما سيرسمان مجرى الأحداث القادمة، احتياجات هذه الطفلة أم خوفي وعدم ثقتي بنفسي؟ ماذا لو كان هذا طفلي ؟ طفلك؟ هذه الفتاة هي مرآة لجميع الأطفال الناشئين الذي يمدون بأيديهم إلينا ويتحدثون الينا في صمتهم، وينتظرون ويتشوقون لتلك اللحظة التي نحضنهم فيها. هذا طفلي. هذا طفلك