وَسَخِّرُوا قُلُوبَ أَهْلِ الْعَالَمِ وَأَفْئِدَتَهُمْ بِجُنُودِ الْبَيَانِ
إِنَّ خَيْمَةَ الأَمْرِ الإِلَهِيِّ عَظِيمَةٌ وَلَمْ تَزَلْ تَبْقَى مُظَلِّلَةً عَلَى جَمِيعِ أَحْزَابِ الْعَالَمِ. إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُكُمْ وَأَلْفُ لَوْحٍ شَاهِدٌ لَكُمْ. قُومُوا عَلَى نُصْرَةِ الأَمْرِ وَسَخِّرُوا قُلُوبَ أَهْلِ الْعَالَمِ وَأَفْئِدَتَهُمْ بِجُنُودِ الْبَيَانِ. يَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْكُمْ مَا هُوَ السَّبَبُ لِرَاحَةِ بُؤَسَآءِ الأَرْضِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ. شُدُّوا أَزْرَ الْهِمَّةِ عَسَى أَنْ يَتَحَرَّرَ الْعِبَادُ مِنَ الأَسْرِ وَيَنَالُوا الْحُرِيَّةَ. قَدِ ارْتَفَعَ الْيَوْمَ أَنِينُ الْعَدْلِ وَحَنِينُ الإِنْصَافِ وَأَحَاطَ الْعَالَمَ وَالأُمَمَ دُخَانُ الظُّلْمِ الْقَاتِمُ. قَدْ نُفِخَتْ بِحَرَكَةٍ مِنَ الْقَلَمِ الأَعْلَى رُوحٌ جَدِيدَةٌ لِلْمَعَانِي فِي أَجْسَادِ الأَلْفَاظِ بِأَمْرٍ مِنَ الآمِرِ الْحَقِيقِيِّ. وَآثَارُهَا ظَاهِرَةٌ لاَئِحَةٌ فِي جَمِيعِ أَشْيَاءِ الْعَالَمِ. هَذِهِ هِيَ الْبِشَارَةُ الْعُظْمَى الَّتِي جَرَتْ مِنْ قَلَمِ هَذَا الْمَظْلُوم
(مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، لوح الدنيا، ص102)
خلق الإنسان كائنا اجتماعيا يتميز بفطرةٍ ذاتيةٍ يرسم فيها ملامح وجوديته عن طريق علاقات تواصلية يترابط فيها مع الآخرين. ويعتبر الكلام، الحديث، التبليغ أو البيان من أولى الملكات الحسية التي يحدد من خلالها الإنسان خارطة ذاتيته التواصلية. فبالبيان يعكس أفكاره،و وجوديته، وهويته، وذاتيته في حيثيّة تُوحده مع الآخر في هذه البوتقة الفطرية. يشير الجاحظ في كتابه البيان والتبيين متحدثا عن اللسان وأهميته في الإبانة والتبليغ بأن اللغة حدث اجتماعي بالدرجة الأولى. و يذكر بشير إبرير " لقد تناول العلماء العرب ظاهرة التبليغ تناولاً علمياً شاملاً، هم به روّاد، فأكدوا حاجة الإنسان للسان، وحتمية حضور الجانب اللغوي في تعايش الناس، وربط علاقاتهم وتفاهمهم وانتفاعهم به، مبرزين أن الإنسان دون خطاب يبقى حبيس ذاته معزولاً عن المجتمع، مما يؤكد أن وظيفة اللغة في المجتمع هي ربط حبل الأسباب بين أفراده بحسب مستوياتهم وأحوالهم وما يؤمنون به من أغراض، كما بينوا الفرق بين التبليغ اللغوي وغير اللغوي، وعلاقة أحدهما بالآخر والأحوال المختلفة التي يحدثان فيها". ولا يعتبر التبليغ من أهم الملكات الحسية في الحيز المادي فقط بل تتمدد دائرة أهميته ليصبح أيضا من أهم الملكات الروحانية
تعتبر ملكة " التبليغ والبيان" من إحدى الملكات الروحانية التي يحتاج الطفل بأن يتربى عليها منذ اللحظات الأولى من ولادته. فأول ما يبدأ الطفل بادراك العالم الذي يحيط به تبدأ معه محاولاته بالتحدث مع هذا العالم وكأنه يرغب من خلال أصواته الطفولية (أغو، أغو، أغو) بأن يتعرّف على العالم ويعرّفه أيضا بنفسه. ويكبر الطفل وتكبر معه هذه الرغبة الفطرية في التعريف بنفسه وعالمه. عندما يُربي الوالدان في طفلهما هويته البهائية، فستكون هذه الهوية هي المحور الذي سيبني عليه لغوياته في حواره مع العالم اللانهائي الذي يحيط به. ومن الحب تنشأ الهوية البهائية " أحببت خلقك فخلقتك". فيُربّى الطفل أول ما يُربّى في هويته الروحانية على إدراك شمولية هذا الحب وانعكاساته اللانهائية. فهو قد خُلق من الحب، ولكن ليس وحده الذي خُلق من الحب، بل كل انسان آخر قد خُلق أيضا من الحب.عندما يُخاطب الخالق المخلوق ويقول له " أحببت خلقك فخلقتك" فإن آثار هذا الحب السماوي يُغرق في بحار أنواره الخلائق أجمعين. هنا يتعرف الطفل على الحب منعكسا في ذاتية كينونته ( فيدرك بأنه قد خلق من الحب) متوائما وإدراكه بانعكاسات هذا الحب في وجودية الطفل الآخر مثلا (إذ يعلم علم اليقين بأن هذا الخطاب يشمله أيضا). ويتعرف الطفل ،في هذه المراحل الأولية من نشأته الروحانية ، على حب الخالق في نفسه وفي الآخرين
ومن ثم يتدرج الوالدان في تربية طفلهما صوب إدراك مفاهيم هذا الحب الإلهي بحيثية ترسم خارطة انسانيته وخطوط هويته في اندماج تكاملي بين السماء والأرض: حب الخالق وحب المخلوق
بداية تتشرب وجودية الطفل من نور الحب الساطع من خلال إدراكه بأن خالقه أحبه فخلقه. ويتزامن مع هذا الإدراك لحب الخالق له، إدراكه بحب الخالق لكل مخلوق آخر. ثم تتعمق في وجوديته مشاعر حبه لهذا الخالق الذي أحبه أولا (دون سبب) وخلقه. (غالبا ما يفكر الأطفال بمنهجية لحظية في تحليلهم المنطقي، وهنا قد يتساءل الطفل مستغربا: ماذا فعلتُ كي يحبني الله ويخلقني؟ وعندما نجيب سؤاله قائلين: أنت لم تفعل شيئا، فالحب كان أولا، وقد أحبك الله ولهذا فقد خلقك. قد يزداد استغرابا ويظهر حيرته أمام فهم هذا المنطق الإلهي الغيرمنطقي: أحبني دون سبب؟؟). ويتدرج الوالدان من تربية الطفل على حب الخالق الذي يحبه إلى انعكاسات هذا الحب في ذلك المخلوق الذي يتشارك وإياه في حب الخالق لهما. فيقولان له مثلا: هل تعلم بأن الله يحب صديقك (س) أيضا؟ ويُذّكر بأن خطاب " أحببت خلقك فخلقتك" تشمله كما تشمل صديقه. فيجيب الطفل : نعم. فيسألانه بعد فترة وجيزة: ما رأيك، ما هي المشاعر التي يجب أن نحسها اتجاه (س) ونحن نعلم بأن مشاعر الله اتجاهه هي الحب؟ فيجيب الطفل مسرعا: الحب، أنا أحب صديقي (س) مثلما يحبه الله. ثم نسأله عن طفل آخر قد يختلف عنه في الديانة أو العرق أو اللون أو قد لا يتوافق معه لسبب من الأسباب، فنقول له: ماذا عن (ص)، هل تظن بأن الله يحبه؟ بطبيعة الحال سيجيب الطفل أول ما يجيب بالنفي: لا. فنذكره بخطاب الخالق : " أحببت خلقك فخلقتك" ونقول له: ولكن إذا لا يحبه الله فلماذا إذن لم يذكر اسمه هنا ، أولم يكن باستطاعة الخالق بأن يقول: أحببت خلقك فخلقتك، إلا (ص) ، فأنا لم أحب خلقك وأنا لم أخلقك؟ سيفكر الطفل قليلا، وسيجيب، نعم. فنسأله مرة أخرى: إذن هل تظن بأن الخالق أحب خلق (ص) فخلقه؟ فيجيب الطفل مرة أخرى: نعم. فنسأله : وما رأيك، إن كان الخالق يحب (ص)، ألا تظن بأن عليك أنت أيضا أن تحبه؟ ويتعرف الطفل وهو في سنينه العمرية الأولى على محور هويته البهائية وهي : وحدة العالم الإنساني
فيما يلي قصة عن حضرة عبدالبهاء والهوية البهائية
وقفت الطفلة مُنى في مكانها مذهولة و قد بهرها مظهر حضرة عبدالبهاء . نظرت إليه طويلاً ؛ لباسه ناصع البياض و عمامته الجميلة و عيناه الزرقاوان البراقتان . بادلها حضرته بنظرته الحانية ثم ابتسم و انحنى و رفعها بين ذراعيه و قبّل وجنتيها . شعرت منى بالدفء و الأمان و بالحب الأبوي بين ذراعي حضرته
سألها حضرة عبدالبهاء: " هل أنت فرنسية أم إنجليزية "؟
لم تجب الطفلة منى و شعرت بالخجل الشديد ، وانكمشت على نفسها ، ثم فجأة ضحكت ضحكة أخفتها بيديها
ابتسم لها حضرته و قال لها: إذا سألك الناس هل أنت فرنسية أم انجليزية ، فقولي لهم أنا بهائية
تتربع الملكتان الروحانيتان البيان وتوأمها الخدمة على عرش الملكات الروحانية. " إلهي ومولائي... إني أدعوك... أن تجعل عبدك هذا آية الهدى بين الورى وكلمة التقوى بين الأصفياء...، واشدد أزره على خدمتك بين الأتقياء ". لذا فإن من أهم أساسيات تربية الهوية البهائية في الطفل هي تنمية ملكة التبليغ في شخصيته ومشاركته لانعكاسات ومظاهر هذا الحب اللانهائي مع الآخرين: حب الخالق له ولغيره، حبه . للخالق، حبه لكل من يحبه الخالق (الإنسانية بأجمعها). التبليغ هو التحدث عن الحب. ومن الضروري على الوالدين بتربية طفلهما بحيثية يشجعانه على التبليغ وعن التحدث عن هذا الحب بصفة يومية
أَسْأَلُكَ أَنْ تُؤَيِّدَنِي فِي كُلِّ الأَحْوَالِ عَلَى ذِكْرِكَ وَثَنَائِكَ وَخِدْمَةِ أَمْرِكَ بَعْدَ عِلْمِي بِأَنَّ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْعَبْدِ مَحْدُودٌ بِحُدُودِ نَفْسِهِ وَلاَ يَلِيقُ لِحَضْرَتِكَ وَلاَ يَنْبَغِي لِبِسَاطِ عِزِّكَ وَعَظَمَتِكَ. وَعِزَّتِكَ لَوْلاَ ثَنَاؤُكَ لاَ يَنْفَعُنِي لِسَانِي وَلَوْلاَ خِدْمَتُكَ لاَ يَنْفَعُنِي وُجُودِي وَلاَ أُحِبُّ الْبَصَرَ إِلاَّ لِمُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ أُفُقِكَ الأَعْلَى وَلاَ أُرِيدُ السَّمْعَ إِلاَّ لإِصْغَاءِ نِدَائِكَ الأَحْلَى
(مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، لوح الإِشْرَاقَات، ص13)
هذا نموذج فيديو (باللغة الفارسية) عن التبليغ لطفل في الخامسة والنصف من عمره يتحدث عن مظاهر الحب اللانهائي وسطوع انعكاسات انواره |
|