يَا ابْنَ الإِنْسانِ كُنْتُ فِي قِدَمِ ذاتِي وَأَزَلِيَّةِ كَيْنُونَتِي؛ عَرَفْتُ حُبّي فِيكَ خَلَقْتُكَ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مِثالِي وَأَظْهَرْتُ لَكَ جَمَالي
حضرة بهاءالله، الكلمات المكنونة، ص 5
يُحوّل الوالدان الله تعالى في غالب الأحيان إلى قوة غاضبة يرعبان به أطفالهما من القيام بأي شئ يخالف أوامره. ويسلك الوالدان أيضا المنهجية ذاتها في تربيتهم حس الطاعة والإحترام في طفلهما اتجاههما كوالديه. وحيث يبدأ الوالدان منهجية التخويف والترعيب من غضب الله إن لم تطاع أوامره في مراحل مبكرة جدا من عمر طفلهما ، يكبر الطفل وهو لا يحمل في أعماقه سوى هذه الصورة الغاضبة التي رسمها له والديه لله عز وجل وهذا الرعب الأبدي من عقابه وانتقامه. وبتلك النحوية التي ينمو الخوف في الطفل من غضب والده مثلا ويتحول إلى جزء لا يتجزأ من وجوديته المستقبلية ككيان إنساني، ينمو مع خوفه هذا رغبته في التشبه لهذا الوالد الذي يرعبه ويهاب من سطوته وغضبه حيث لا يعرف لنفسه مثلا أعلى سواه. وتنعكس مظاهر خوف ورعب الطفل من الله تعالى بالنحوية ذاتها في كينونته الإنسانية وتنمو في أعماق وجوديته رغبته الفطرية في التشبه بخالقه، هذاالخالق الغاضب الذي لن يفتأ لحظة بالإنتقام ممن لا يطيعه ويهلكه في نار الجحيم. بطبيعة الحال يتبع الوالدان هذه المنهجية مع طفلهما من أجل تربيته أخلاقيا وروحانيا ولكنهما لا يلتفتا إلى خطورة النتائج المترتبة في اتباع هذه المنهجية. فعلى سبيل المثال ، إن اتبع الأب أسلوب الضرب والزجر والتهديد في تعامله وتربيته ، عندما يكبر الطفل لا يتذكر العمل الذي من أجله ضُرب أو هُدد بالضرب ( وبالأخص إن كان يتبع الأب هذا الأسلوب في كل كبيرة وصغيرة ترتبط في تعامله مع طفله)، بل جل ما يتذكره الطفل هو أن والده كان شخصا قاسيا ورجلا متجهم الوجه وشرس الطباع. لا يتذكر الطفل الصفة الأخلاقية التي ضربه من أجلها والده ضربا مبرحا وبقسوة شديده عندما لم يتبعها، ولكنه يتذكر احساسه بالرعب من والده وهو يهوي عليه بكفّه أو بعصاه، ويتذكر خوفه من أن يموت في لحظته تلك دون أن تنزل عليه رحمة من والده، ويتذكر جل ما يتذكره بأنه كره والده في تلك اللحظة وأنه أقسم بأنه سيكبر يوما ليصبح مثله قاسيا وشريرا (إن استخدمنا مجازا طريقة تفكير الأطفال)، ويتذكر أيضا جل ما يتذكره احساسه في تلك اللحظة ( وهي لحظات متوالية متكررة في سنين طفولته ومراحله العمرية اللاحقة) بأن والده لا يحبه ولم يحبه. و يترسب في أعماق الطفل إحساس أشد ألما من إحساسه بعدم حب والده له وهي إحساسه بأن والده يكرهه
يتفضل حضرة بهاءالله في الكلمات المكنونة "عَرَفْتُ حُبّي فِيكَ خَلَقْتُكَ" فنحن قد خلقنا لأن الخالق أحبنا. لذا تتشكل هويتنا الوجودية من كينونة هذا الحب الإلهي وإلا لَما خُلقنا ولَما وُجدنا. ولأن ذاتيتنا الإنسانية تتمحور في مركزية خالقٍ يحبنا فإننا نعكس هذا الحب في جميع زوايا حياتنا البشرية وممارساتنا اليومية. ماذا يفعل الإنسان إن عرف بأن أحدهم يحبه؟ هل يغضب، هل يقسو، هل يدمر ما أمامه وهل تشتعل في أعماقه نيران دمار هالك أم ترهف روحه وترتقي كيانه وتمتلأ قلبه بحب مماثل يصبغ بنورها الكون الذي يحيط به بحيث لا يُحرم منه شجرٌ ولا حجر؟ ويتفضل في هذه الكلمة المكنونة "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مِثالِي" ، فكل انسان خلق مرآةً يعكس في وجوديته هذا الحب الإلهي الذي خُلق منه. إن وجّه الفرد مرآةً إلى السماء، ستعكس مرآته ما بالسماء سواء اكان طيرا أوغيما أو شمسا أو قمرا. وقد قال الله تعالى"عَرَفْتُ حُبّي فِيكَ" ، ليغمر هذا النور الساطع من شمس الحب الإلهي سماء وجوديتنا. ترى ما الذي سينعكس في مرآتنا إن وُجّهت صوب هذا السماء ؟ ويتفضل حضرة بهاءالله "وَأَظْهَرْتُ لَكَ جَمَالي"، ويرتبط الجمال هنا بمفاهيم مظاهر هذا الحب الإلهي الذي تحدث عنه الخالق"عَرَفْتُ حُبّي فِيكَ". فماهو هذا الجمال الذي أظهره الله لنا سوى حبه لنا. ففي البداية كان الحب الإلهي الذي سبق خلقنا. وفي النهاية أظهر لنا الخالق جماله الإلهي. وبين البداية التي كانت حُبّاً والنهاية التي هي جمال خلق الإنسان مرآةً يعكس جمالية الحب الإلهي
إن انتهج الوالدان منهجية تعريف جمالية الخالق إلى طفلهما من خلال تجليات هذه الجمالية في حبه لنا فسيُربى الطفل على توجيه مرآة وجوديته ليعكس جمالية الحب الإلهي بدلا من أن يعكس مظاهر الغضب الإلهي. بالنظر إلى العالم الذي يحترق من حولنا بنيران الكره والغضب والتعصب والإنتقام، وبالنظر إلى كل أولئك الذين ينشرون الموت والدمارأينما وطئت أقدامهم، يستطيع كل أب وأم أن يقررا صفات الإله الذي يريدان لطفلهما بأن يعكسه في مرآة وجوديته: هل الله حب "عَرَفْتُ حُبّي فِيكَ خَلَقْتُكَ" أم أن الله غضب وانتقام