يَا ابْنَ الإِنْسانِ
قَدْ مَضى عَلَيْكَ أَيَّامٌ، وَاشْتَغَلْتَ فِيها بِمَا تَهْوى بِهِ نَفْسُكَ مِنَ الظُّنُونِ وَالأَوْهَامِ. إِلى مَتى تَكُونُ راقِداً عَلَى بِساطِكَ. ارْفَعْ رَأْسَكَ عَنِ النَّوْمِ؛ إِنَّ الشَّمْسَ ارْتَفَعَتْ فِي وَسَطِ الزَّوالِ، لَعَلَّ تُشْرِقُ عَلَيْكَ بِأَنْوارِ الْجَمالِ
الكلمات المكنونة، ص28
في إحدى المدارس الحكومية، وعندما كان الأطفال يحضرون أنفسهم لتناول وجبة الغداء، جاءت المعلمة وذكرتهم بكل محبة ولطف بأن كل طفل سيحصل في البداية على صحن واحد به وجبة الغداء بكمية محددة ولكن وبعد أن ينتهي من أكلها إن أراد المزيد فيمكنه التوجه إلى الموظفة المسؤولة التي تقدم الطعام وطلب المزيد منها. ثم أضافت: وعندما تنتهوا من أكل ما بصحنكم يجب أن تضعوا صحونكم على تلك الطاولة هناك حتى تجمعها الموظفة المسؤولة وتغسلها. واستمع الأطفال الصغار بسعادة إلى معلمتهم وهزوا الرؤوس مجيبين عندما سألتهم إن فهموا ما قالته : نعم، يمكننا أن نحصل على مزيد من الطعام إن كنا مازلنا نشعر بالجوع ويجب أن نعيد صحننا بعد الإنتهاء من الأكل ونضعها على تلك الطاولة هناك. فابتسمت المعلمة وانسحبت بهدوء من قاعة الطعام
حصل كل طفل على صحن طعامه وجلسوا على الطاولة المخصصة لهم وأخذوا يأكلون وهم يتسامرون ويتضاحكون مع بعضهم البعض. بعد فترة قصيرة، انتهى أحد الأطفال من تناول ما في صحنه وحيث أنه كان ما يزال يشعر بالجوع قرر الحصول على المزيد. فقام من كرسيه وأخذ صحنه معه ووضعها على تلك الطاولة المخصصة لتجميع الصحون المتسخة والتي أشارت إليها معلمته ثم اتجه إلى الموظفة المسؤولة باعطاء الطعام وسألها بكل أدب: هل يمكننى أن أحصل على المزيد؟ وسألته الموظفة: أين صحنك؟ فأخذ الطفل صحنا نظيفا من الصحون الموجودة على الطاولة وأعطاها إياها ولكنها سحبت الصحن من يده و صرخت عليه قائلة: لا، لا يمكنك أن تحصل على صحن آخر. ولم يفهم الطفل لصغر سنه ما تعنيه هذه الموظفة، وحيث أنه كان مايزال يشعر بالجوع وحيث أن معلمته أخبرتهم بإمكانية حصولهم على مزيد من الطعام إن رغبوا بذلك فأخذ صحنا جديدا من الصحون الموجودة أمامه على طاولة الطعام وأعطاها للموظفة التي كانت تستشيط غضبا ويتطاير الشرر من عينيها، وقالت له بصوت أعلى من صرختها السابقة: لا! قلت لك لا يمكنك أن تحصل على صحن آخر. وسحبت الصحن من يدي الطفل تاركة إياه في نهر من دموعه المنهارة على وجنتيه وذقنه. نظر الطفل يمنةً ويُسرةً إلى كل الآخرين الجالسين في قاعة الطعام بالمدرسة، ثم طأطأ برأسه وانسحب باكيا حزينا إلى حيث لا يراه أحد. لم تتحرك الموظفة المسؤولة قدما واحدا اتجاه الطفل بعد أن رأت سيل دموعه منهارا على خديه، ولم تطيب خاطره، ولم تحضنه، ولم تعطيه بالطبع صحنا آخر. تركت الموظفة المسؤولة الطفل الصغير بجوعه ودمعه ينسحب إلى ركن منعزل في المدرسة دون أن تتحرك قيد شعرة لإحتوائه. هذه قصة واقعية شهدت أحداثها بأم عيني وبكى قلبي حزنا على هذا الطفل المسكين الذي تفتت قلبه الصغير المرهف إلى شظايا وبكى قلبي حزنا على هذه الموظفة المسكينة التي مات قلبها ولم يبق منها إلا جسدا خاويا
لم تخطئ المعلمة عندما أخبرت الأطفال بإمكانية حصولهم على مزيد من الطعام إن رغبوا بذلك، ولم يخطئ الطفل عندما اتجه صوب الموظفة المسؤولة سائلا إياها بمزيد من الطعام، ولكنه أخطأ عندما وضع صحنه المتسخ على الطاولة المخصصة لجمع الصحون المتسخة ولم يأخذها معه إلى الموظفة المسؤولة كي تسكب له في الصحن نفسه مزيدا من الطعام. فجل ما تهتم به الموظفة المسؤولة هي أن كل طفل يجب أن يستخدم صحنا واحدا فقط، ولا يهمها كثيرا إن تحطم قلب مرهف من أجل هذا الصحن! يتساءل المرء: ترى أيهما أهم أن لا يتسخ صحن إضافي أم أن لا ينكسر قلب طفل في الثامنة من عمره؟ لهذه الموظفة كان الصحن، هذا الشئ المادي الدنيوي الجامد، هو محورترتكز عليه في هويتها الانسانية (أو اللاإنسانية) وليس رعاية واحتواء الكيان المرهف الصغير لذلك الطفل البرئ
يفقد الوالدان في كثير من الأحيان ، في خضم مسؤولياتهما الجسام ، المحور الأساسي الذي يجب أن يستندا عليه في تعاملهما وفي تربيتهما لطفلهما. فقد يتحول دخول الطفل إلى مدرسة خاصة محورا بدلا من الطفل نفسه، بمعنى أن يقضي الوالدان جل وقتهما خارج المنزل يشتغلان ليلا ونهارا حتى يجمعا المال الذي يكفي لدفع المصاريف الباهظة لمدرسة طفلهما ويتركانه وحيدا في البيت بدلا من قضاء الوقت معه وبجواره. وقد يصرخ الوالدان على طفلهما عند تلاوة المناجاة إذا نسي بأن يضم يديه في أدب أو يغلق عينيه مثلا ويقولان له: ألم نعلّمك آداب تلاوة المناجاة؟ وقد يتعامل الوالدان بغضب مع طفلهما إن وقع شيئا ثمينا من يديه على الأرض وانكسر. وقد... إلخ، ولن أتطرق هنا إلى كل الإحتمالات المعيشية والممارسات الحياتية التي يُخطأ فيها الوالدان بتقييم أفعالهما وردود أفعالهما اتجاه طفلهما حيث أنها لا نهائية كعدد ذرات الرمل في صحاري هذا الكوكب. من السهولة جدا أن ينسى الوالدان ما هو لامرئي، وهي هنا كيان الطفل ومشاعره ، مقابل بحر زاخر من المرئيات الملموسة الواضحة أمامهما بجلاء. ومن السهولة جدا أن يتناسى الوالدان بأن تربية الطفل في هويته الروحانية تتطلب منهما تركيزجميع طاقاتهما و اهتماماتهما لتنعكس آثارها في مدار هذه المحورية. نحتاج جميعنا ، كما يحتاج كل أب وكل أم ، أن نحترس في كل لحظة من حياتنا الإنسانية حتى لا نتخذ من صحنٍ جمادٍ دنيوي محوراً ترتكز عليه وجوديتنا، أفكارنا، تصرفاتنا، أخلاقياتنا وعقائدنا
الكِيَاسَةُ واللُّطْفُ اللذينِ كان يَتَمَيَّزُ بِهما حضرةُ عبدالبهاء لَمْ تَشْمَلْ فقط الكلماتِ والإيماءاتِ اللطِيفة. فقد كان قَلْبُهُ مُفْعَمًا
بالحُبّ تجاهَ الجَميعِ، وكان حَسّاسًا جِدًّا تجاهَ مَشَاعِرِ كُلِّ مَنْ كان يتشرَّفُ بِحُضُورِه. أثناءَ أسفارِهِ في الغربِ، كان يتدفَّقُ عَلَيْهِ يوميًا عَدَدُ كَبيرٌ من النّاسِ ليَأخُذُوا حِصَّتَهُمْ مِنْ حُبِّهِ وحَنَانِه ويَسْتَمِعُوا إلى كَلِماتِه الحَكِيمَة. وفي لَنْدَن كان هناك الكثيرُ مِنَ النّاسِ مِمَّن يُريدونَ مُقَابَلَةَ حضرةِ عبدالبهاء على انفراد، لذا فقد قرَّرَ الأحباءُ أن يَتِمَّ تَرْتِيبُ الزِّياراتِ بِصُورَةٍ مُنَظَّمَةٍ على أن يَقُومَ كُلُّ فَرْدٍ بِأَخْذِ مَوْعِدٍ للِقاءِ حضرتِه. وفي أَحَدَ الأيّامِ وَصَلَت امرأةٌ دُونَ مَوْعِدٍ مٌسْبَقٍ، وكانتْ مُشْتَاقَةً لِمُحَادَثَةِ حَضْرَةِ عبدالبهاء، فَقِيلَ لها بِأنَّ حَضْرَتِهِ مَشْغُولٌ مَعَ بَعْضِ الأَشْخَاصِ المُهِمِّينَ ولا يُمْكِنُ إزْعاجُه. كان لِهذا الخَبَرِ وَقْعٌ شَدِيدٌ عليها فَقَفَلَتْ راجِعَةً بِقَلْبٍ مُثْقَلٍ بِالحُزْن. ولكنَها شَعَرَتْ بالدَّهْشَةِ عندما سَمِعَتْ صَوْتًا يُناديها. فقد أرْسَلَ حضرةُ عبدالبهاء شَخْصًا لاستدعائها إليه. فقد قالَ للأحباءِ بِصَوْتٍ حَازِمٍ: هناك قلبٌ قد تَحَطَّمَ. أَسْرِعْ! أَسْرِعْ! أَحْضِرْها إليّ
يتفضل حضرة عبدالبهاء: على الأمّهات الاهتمام بتربية الأطفال والنّظر في شأنها بعين الاعتبار، لأنّ الغصن طالما هو طريّ يمكن تربيته كيفما تشاء، وعليه يجب على الأمّهات تربية صغارهِنَّ كما يربّي البستانيّ أغراسه ويعتني بها، والسّعي ليلاً نهارًا في العمل على تأسيس الإيمان وخشية الله وحُبّ الآخرين وفضائل الأخلاق والصّفات الحسنة في أطفالهِنَّ، لتثني الأمّ وتُطري طفلها كلّما قام بعمل ممدوح ولتملأ قلبه سرورًا، وإذا صدرت من الطّفل أدنى حركة شاذّة لتنصحه ولا تعاتبه ولتعامله بوسائل معقولة ولو بقليل من الزّجر في الكلام إذا لَزِم الأمر، ولكنّ الضّرب والشّتم لا يجوزان أبدًا فإنّهما يفسدان أخلاق الطفل
كتيب التربية والتعليم، ص 51