أوّل مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله تحرّي الحقيقة، ومعنى ذلك أنّه ينبغي أن ينزّه النّاس نفوسهم ويقدّسوها عن تلك التّقاليد الّتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم
خطب عبدالبهاء في أوروبا وأمريكا ص 158
يتفضل حضرة بهاءالله في الكلمات المكنونة العربية :" يَا ابْنَ الرُّوحِ..أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِباً وَلا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِيناً وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ". ما يحدث غالبا أن ينسى الوالدان أن هذا الخطاب موجهٌ أيضا إلى طفلهما، ويتغافلان عن أهمية تربيته بحيثية تشجعه على تنمية هذه الخاصية الملكوتية التي يصفها حضرة بهاءالله بأنها "أحب الأشياء" عنده! يبدأ الطفل في المراحل العمرية الأولى لنشأته باكتشاف وتنمية حدود ملامح شخصيته، ويتعلم خلال هذه المرحلة انفصال حيزه الذاتي عن حيز ذاتية الآخرين، بمعنى أنه يكون قادرا على أن يعرف مثلا بأن انعكاسه في المرآة هي انعكاس وليست حقيقة كما أنه يدرك بأن هذا مجرد انعكاس لصورته ولا يظن بأن هذا الإنعكاس طفلٌ يقف أمامه فيرغب باللعب معه
تعتبر هذه من أهم الملكات التي ينميها الطفل عند بلوغه الثانية من عمره، ملكةٌ يبني على أساسها ذاتية وجوديته الأبدية وملامح شخصيته. عندما يكتشف الطفل نفسه ويكتشف فرديته يبدأ خطواته الأولى صوب اكتشاف ماهية هذه الفردية وكيفية ممارستها في حيزه الذاتي وفي حيزه الإجتماعي. في هذه المرحلة العمرية، أي سن الثانية، يلجأ الوالدان إلى استخدام تلك المعايير التقليدية السائدة التي يظنانها مصيرية في خلق هوية طفلهما في تبعيته الإجتماعية. ففي اللحظة التي يبدأ فيها الطفل خطواته الأولى صوب تكوين ذاتيته يبدأ الوالدان مهمتهما في تكبيل هذه الذاتية بقيود العادات والتقاليد والأعراف الإجتماعية السائدة. وما أن يبدأ الطفل في اكتشاف حيزه، حتى يزحف الوالدان إلى هذا الحيز ويدخلان معهما بقية أفراد الأسرة القريبة والبعيدة بالإضافة إلى أولئك الذين ينتمون معهم في دوائرهم الإجتماعية
رغم أن حضرة بهاءالله يتفضل بأن أحب الأشياء عنده هي أن يرى الفرد بعينيه لا بعيني الآخرين ويفكر بعقله لا بعقل الآخرين، ما إن يلجأ الطفل باستخدام عينيه وعقله، حتى يمنعه الوالدان و بدلا من ذلك يحثانه على استخدام عيني جديه وجدتيه وأخواله وأعمامه وخالاته وعماته وهكذا إلى أن تكبر دائرة الأعين وتشمل كل الآخرين الذين يملكون وجوها وأعينا. قد لاندرك في الوهلة الأولى خطورة ما نحن بصدد القيام به عندما نعلن لطفلنا أن حيزه هي في الواقع حيزنا وأن ممارسته لحريته مشروطة بقيودنا. فعلى سبيل المثال، إذا رغب طفلنا في أن يستمر بقراءة كتابه بدلا من الحديث مع خالته، نقول له: هيا قم وتحدث مع خالتك، حتى لا تظن بأنك طفل غير مؤدب. (ما يتعلمه الطفل هنا، أنه يجب عليه القيام بما يرضي الآخرين حتى يضمن رضاءهم عنه وأن أخلاقياته تُحدد من خلال أعين الآخرين، فهو مؤدب إن تحدث مع خالته، وغير مؤدب إن لم يتحدث معها رغم أنه في الواقع لا يحطم أي حواجز أخلاقية، فجلّ ما يرغب في فعله هي أن يكمل قراءة كتابه). وعلى سبيل المثال، عندما نذهب إلى محل لشراء بعض الأغراض المنزلية، نقول لطفلنا : إياك أن تعمل فوضى وتتحدث بأعلى صوتك، حتى لا يقول الناس بأنك طفل غير مؤدب (هنا أيضا، ما يتعلمه الطفل هو مدى أهمية رأي الآخرين في تحديد صلاحيته الأخلاقية). وعلى سبيل المثال، عندما نذهب إلى بيت أحد الأصدقاء نقول لطفلنا : إياك أن تأكل أكثر من قطعة واحدة، حتى لا يقول الناس بأنك طفل جائع وأن والديك لا يوفران لك الطعام في البيت. وعلى سبيل المثال، إذا رغب طفلنا بارتداء ملابس تخالف ذوق الجد، نقول لطفلنا: هل تريد أن يغضب عليك جدك ويصفك بالطائش. وعلى سبيل المثال، إذا أراد طفلنا أن يلعب مع طفل آخر، نحذره قائلين: إياك والتشاجر، لا اريد أن اسمع من الناس بأن طفلي مشاغب وغير مؤدب. ولا تنتهي الأمثلة، ولكن ينتهي من طفلنا حيزه ووجوديته واستقلاليته
يتفضل حضرة بهاءالله " أن ترى الأشياء بعينك، لا بعين العباد"، الجد والجدة والأقرباء والأصدقاء والمعارف هم "العباد" الذين ينصحنا حضرة بهاءالله بأن لا نستخدم أعينهم وعقولهم ومع ذلك منذ اللحظة التي يبدأ فيها الطفل باستخدام عينيه واكتشاف حيزه، حتى نكبله برأي الناس وندفن عينيه تحت أتلال لا نهائية من أعين المحيطين به. من الجدير بالذكر أن الحديث هنا ليس عن تربية الطفل على أخلاقيات الأدب و الإحترام ، فاحترام الجد والجدة تعتبر من فضائل الأخلاق، ومراعاة آداب المائدة تعتبر حقاً واحدة من الملكات المستحبة، ولكن الحديث هنا هي عن كيفية تربية اطفالنا بنحوية روحانية تعكس ما ينصحنا به حضرة بهاءالله. ينصحنا حضرة بهاءالله بأن نعرف الأشياء بمعرفتنا لا بمعرفة الآخرين. عندما ينضج الفرد عمريا، يصبح هذا الخطاب خطابا مباشرا يتحدثه حضرة بهاءالله معه " وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ". ولكن عندما مايزال هذا الفرد طفلا، فإنه يقع على عاتق والديه تربيته على "الانصاف". غالبا ما يتناسى الوالدان هذا الخطاب المباشر لحضرة بهاءالله وبدلا من ذلك يغرسان في طفلهما أهمية رأي الناس فيه ورضاءهم عنه
في الأمثلة السابقة، يستطيع الوالدان تشجيع طفلهما على تنمية هذه الملكة الروحانية التي يصفها حضرة بهاءالله بأنها "أحب الأشياء" عنده من خلال تشجيعه على التفكير واستنتاج الجواب. فمثلا بدلا من أن نقول له : إياك والتشاجر، لا اريد أن اسمع من الناس بأن طفلي مشاغب وغير مؤدب. نسأله: إذا كنت تلعب مع صديقك واختلفتما في الرأي، هل تظن بأن الحل يكمن في التشاجر معه وضربه؟ يجب أن نمنح الحيز الكافي لطفلنا حتى يستخدم عقله في التفكير. وسواء أكان جوابه بالسلب (لا ، التشاجر والضرب لا يعتبران حلا للمشكلة) أو بالإيجاب (نعم، يجب أن أتشاجر معه وأضربه)، لا نفرض عليه رأينا الشخصي (يجب أن نتذكر بأننا بصفتنا والدين لطفلنا، يقع على عاتقنا مهمة تربيته بالكيفية التي ينصحنا بها حضرة بهاءالله، ونحن المسؤولون أولا وأخيرا بتنفيذ هذه الوظيفة الأساسية)، لذا إن أجاب بالسلب وقلنا له (جيد، هذا ما انتظره منك أن تفعله) وإن أجابنا بالإيجاب قلنا له (لا، الضرب والتشاجر لن يحلا الموضوع بل سيزيدانها سوءا) فإننا ما نزال نسحبه اتجاه رأينا وعقلنا وعيننا وكأننا نقول له في الحالة الأولى (نعم تفكيرك صحيح لأنه يتناسب مع تفكيري) وفي الحالة الأخرى (لا، تفكيرك خاطئ وهو يناقض تفكيري وعليك أن تغيره بحيث يتناسب مع المعايير الأخلاقية حسب تفكيري أنا). عندما يجيب الطفل بالسلب أو الإيجاب، وحتى ننمي فيه ملكة "الانصاف" التي ينصحنا بها حضرة بهاءالله نقول له لنرى ماذا ينصحنا بها حضرة بهاءالله مثلا في لوح الحكمة " قد خلقتم للوداد لا للضغينة و العناد" ونطلب منه بأن يفكر مرة أخرى في الجواب الذي أجابنا به ونسأله : هل تظن بأن تفكيرك وجوابك يتطابق مع ما يطلبه منا حضرة بهاءالله؟ كوالدين يجب أن يبحث كل منا في أعماقه: ما الأضرار الروحانية التي ألحقها بطفلي عندما أملأ حيزه الذاتي بما يرضي الجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة والأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف و.. القائمة طويلة جدا ولا تنتهي أبدا. عندما نقول لطفلنا : لا أريد أن يقول الناس بأنك طفل غير مؤدب، فإننا في الواقع نرسم لطفلنا خارطة تبعيته ونعلن له بأنه ليس مستقلا في وجوديته الذاتية. ولكن، هل هذا ما يخبرنا به حضرة بهاءالله؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يسأله الوالدين ويبحثان عن جواب له. يتفضل حضرة عبدالبهاء
العلم هو الخطوة الأولى، والعزم والتّصميم هما الخطوة الثّانية، والعمل وإنجازه هما الخطوة الثّالثة. فإذا أردنا إقامة بناء وجب علينا أوّلاً أن نرسم خطة له، ثمّ أن تكون لدينا القدرة على إقامته، عندئذ نستطيع أن نباشر البناء
خطب عبدالبهاء في أوروبا وأمريكا ص 57