يتفضل حضرة بهاءالله في لوح الهيكل (ص 10):" يا صدر هذا الهيكل انّا جعلنا الأشيآء مرايا نفسك و جعلناك مرآت نفسی فاشرق علی صدور الممكنات بما تجلّی عليك من انوار ربّك ليطهّرها عن الحدود و الاشارات كذلك اشرقت شمس الحِكم من افق قلم مالك القدم طوبی للمتوسّمين انّا بدئنا منك صدوراً ممرّدةً و نعيدها اليك رحمة من لدنّا عليك و علی المقرّبين سوف نبعث بك اولی صدور صافية و ترائب منيرة لن يحكوا الاّ عن جمالی و لن يدلّنّ الاّ علی تجلّيات وجهی انّهم مرايا اسمائی بين الخلائق اجمعين". ويتفضل في الكلمات المكنونة العربية (ص 18): " يَا ابْنَ الإِنْسانِ، افْرَحْ بِسُرُورِ قَلْبِكَ، لِتَكُونَ قابِلاً لِلِقائِي وَمِرآةً لِجَمالِي". من إحدى الخصائص الذاتية في وجودية المرآة هي قدرتها الفطرية في أن تعكس بمحوية تامة وبأمانة بحتة ملامح وصفات وخصائص ما تتوجه بكينونتها الفطرية اتجاهه. خلقت المرآة لا لتعكس نفسها بل أن أصل خلقتها وحقيقة ذاتيها هي أن تعكس ما تُوجه اتجاهه، وتتحدد هويتها التي تتحكم بها فطرتها الذاتية من خلال صفات وخصائص ما تعكسها، فإن توجهت إلى الشمس انعكست في هويتها خصائص وصفات الشمس وإن توجهت إلى الظلام تحدد هويتها بهذا السواد الذي تعكسه
جاء في معجم المعاني الجامع عن المرآة : " الْمِرْآةُ مِثْلَمَا تُرِيهَا تُرِيكَ"، وهذا يدل على خاصيتين ذاتيتين في وجودية المرآة: إحداهما المحوية التامة من المحورية حول "أنا" كونيتها والأخرى التسليم والخضوع الخالص لكونيّة ما ينعكس فيها فلا تغيره ولاتشكك في كونيته. ومن هنا لن تصبح المرآة مرآةَ إن أدخلت في وجوديتها شائبة من " أنا الذاتية"، فرغبت بأن تعكس شيئا من أناها وذاتيها الشخصية (مهما كان هذا الشئ) جنبا إلى جنب مع تلك الذاتية الأخرى التي تتوجه صوبه وتعكس خصائصه. ولن تصبح المرآة مرآةَ إن لم تخضع بإرادتها كاملة لإرادة تلك الذاتية التي تتوجه صوبه وتستسلم بمحوية صادقة في إظهار انعكاسات خصائصه بكل اخلاص وأمانه. عند تلاوة ما تفضل به حضرة بهاءالله في لوح الهيكل "و جعلناك مرآت نفسی" وفي الكلمات المكنونة " وَمِرآةً لِجَمالِي" وعلى ضوء هاتين الخاصيتين التي تتمحور حولهما هوية المرآة وهي المحوية التامة من الأنا الذاتية والخضوع الكامل لاظهار خصائص ذاتية الآخر، تتوضح أمام أعيننا خارطة الطريق صوب ارتقاء هويتنا البهائية الروحانية
ورغم أننا بدأنا الحديث عن المرايا، صفاتها وخصائصها، ورغم أن كل منا
مسؤول عن مرآته الشخصية وكيفية صقلها من شوائب أناها الذاتية لتعكس من كينونتها أنوار الجمال الإلهي إلا أن المرايا التي يتطرق إليها بحثنا هنا هي مرايا من نوع آخر، رغم تشابهها في خصائصها وصفاتها المرآتية. الحديث هنا عن طفلنا، هذا الكائن النقي الذي يولد من صلبنا ويعيش في بيتنا ويتخلق بأخلاقنا ويتبع عاداتنا وتقاليدنا. فلنفكر في طفلنا ، كأولياء أمور وكمربين ، مع الأخذ بعين الإعتبار الخاصيتين الأساسيتين اللتين تتمحور في مدارهما هوية المرآة ألا وهي : المحوية المطلقة والخضوع التام
منذ اللحظات الأولى التي تخلق فيها هذه النطفة الإنسانية في رحم الأم، يبدأ طفلنا النمو في هويته المرآتية فيعكس مظاهر السعادة إن فرحت الأم، فنجد مثلا أماً حاملاً تضحك من غمرة السعادة لموضوع ما وفجأة تضع يدها على بطنها وتقول: آه إن طفلي سعيد مثلى ويتحرك ويضحك معي. وقد يعكس مظاهر الحزن بسكون حركاته إن حزنت أمه وتبللت عينيها وقلبها بالدموع. وغالبا ما تُنصح الأم الحامل بالابتعاد عن المزاج العصبي لأنه سيؤثر سلبا في جنينها فيعكسه في شخصيته بعد ولادته. ترى ماذا يعكس طفلنا المرآة منذ اللحظات الأولى لولادته، هذا هو السؤال الذي نحتاج إلى إيجاد جواب عليه، لأنه إن لم يوجه إلى حضرة بهاءالله فهو لن يعكس أنوارجماله الأبهى، فإلام يتوجه طفلنا المرآة؟ إلينا؟ وإن لم أكن أنا، والدته أووالده ، مرآة أعكس أنوار الجمال الإلهي، فأي انعكاس هذا الذي يتشكل منه كينونة هويتى؟ ترى ماذا يعكس طفلنا المرآة؟ هذا هو السؤال
إن كنت أستخدم التهديد لغة لعلاقاتي، يجب أن أتأكد بأن هذا ما سيعكسه طفلي في مرآته. وإن كنت أستخدم لغة المحبة في علاقاتي هذا أيضا ما سيعكسه طفلي الذي ما هو إلا مرآة لي. إن كنت أقضي جل وقتي على الكمبيوتر أو في مشاهدة التلفاز يجب أن أتأكد بأن طفلي أيضا سيعكس هذا في نحوية استغلاله لوقته. وإن كنت أستفيد من وقتي في بناء جسور المحبة بيني وبين الآخرين وفي خدمة مجتمعي فلأتأكد بأن هذا ما سيعكسه طفلي أيضا. إن كنت أدخن فإن هذا ما سيعكسه طفلي في تعامله مع جسده، وإن كنت أمارس الرياضة وأحافظ على صحتي وسلامتي البدنية فإن طفلي سيعكس هذا في علاقته مع جسده وصحته. إن كنت أستخدم العنف الجسدي في علاقاتي مع طفلي أو مع الآخرين فسيعكس طفلي هذا العنف في علاقاته مع المجتمع. وإن كنت أشعر بالضعف وبالعجز حيال مواجهة تحديات الدنيا فسيعكس طفلي هذا الضعف وسيستسلم ويتقاعس عن مواجهة مشاكله. إن كنت لا أقرأ ولا أمسك بأي كتاب في يدي لأطور معرفتي بحقائق الأشياء فسيعكس طفلي هذا الجهل في شخصيته. طفلي هو مرآة لي، إن كنت... فسيعكسني طفلي
ترى ماذا يعكس طفلنا المرآة؟ هذا هو السؤال. ترى ماذا أعكس أنا المرآة؟ يتفضل حضرة بهاءالله
و جعلناك مرآة نفسی