من أعظم نِعَم الله على الإنسان وكمال فضله علينا دعوته لنا بالحضور بين يديه يومياً والتشرف بلقائه في عوالمه الروحانية. فرض الله تعالى الصلاة على خلقه كعلامة من علامات حب الخالق للمخلوق. تعتبر هذه الدعوة اليومية بالحضور بين يديه للاستفاضة من نوره ومحبته ماء الحياة لكينونتنا الإنسانية. ولأننا نستلم يوميا هذه الدعوة من خالقنا للحضور بين يديه ، فإن كل يوم نلبّي دعوة خالقنا بالحضور إليه يعتبر فخراً وعزاً ومكرمة لنا في ذلك اليوم من حياتنا
فعلى سبيل المثال، إن أرسل لنا ملك عادل فاضل كريم جوّاد دعوةً للحضور إلى قصره والجلوس في محضره والتحدث معه بأمان عن خفايا نفوسنا، ثم أنعم علينا بمحبته ووهبنا من خيرات الدنيا التي تمتلئ بها مملكته، فهل سنرفض دعوته للحضور بين يديه في الأيام المقبلة ونقول له بأننا في غِنى عن لقائه؟ بطبيعة الحال، فإن هذا الملك الفاضل العادل الكريم لا يحتاج إلى حضورنا بين يديه ولكنه يمنحنا هذا الشرف للحضور بين يديه لأنه يدرك مدى احتياجنا للجوء إلى غوثه وحمايته. ومن عمق محبته لنا يفتح مصاريع قصره ويجلس على عرشه بانتظار حضورنا إليه. هذا المثال الدنيوي لاستلامنا دعوة ملكية يجعل كل فردٍ منّا يفكّر في الكيفية التي عليه أن يتحضّر للمثول بين يديّ هذا الملك. أولاً، بما أن الدعوة فرديّة وخاصّة، فهذا يعني أنّنا سنكون في محضر هذا الملك لوحدنا وهذا يعني بأنّنا لا نستطيع رفض هذه الدعوة كما أننا أيضا لا نستطيع أن نعطي بطاقة الدعوة لشخص آخر كي يحضر بدلاً عنّا، ولا نستطيع أيضا أن نأخذ شخصا آخر معنا مهما أحببنا ذلك الشخص، فكل شخص يستلم بطاقة دعوة خاصة به فقط، ولا يُحرم أي فرد من نعمة الحضور بين يدي الملك
وثانيا، بما أن هذه دعوة ملكيّة عظيمة الشأن فإنه يتوجب علينا أن نتحضّر في ظاهرنا وباطننا بما يليق بمثولنا بين يديّ هذا الملك الكريم. وهذا يعني بأننا يجب أن نحضر بين يديه بذهن صافٍ وقلب نقي وفكرثاقب ونفس خيّرة. فمثلاً، إن كان من استلم بطاقة الدعوة مشغولاً في مزرعته، فإنه لا يستطيع أن يذهب للقاء ملكه بملابسه المليئة بالطين، وجسده المغطى برائحة العرق. كما أنه لا يستطيع أن يذهب للقاء ملكه ومعه راديو يضج منه ذبذبات البرامج الإذاعية في الوقت الذي يتحاور
هو فيها مع ملكه فيغطي ضجيج الراديو محادثته مع ملكه
ولا يستطيع أيضا أن يذهب للقاء ملكه وفي جيبه ميكروفونا تتردى من خلاله أصوات أهل بيته في محادثاتهم الشخصية عن المأكل والملبس والقضايا الفردية بحيث تغطي صدى أصواتهم صوت مناجاته لملكه
ثالثا، بما أن الملك لا يستفيد شيئا من حضورنا بين يديه، فإنه يتوجب علينا أن نحترم بكل ذرة في وجودنا هذه اللحظات القيّمة التي نقضيها في محضر هذا الملك الفضيل. ومن علامات الاحترام تواضع القلب ويقظته وانتباهه
عندما يصل الطفل إلى سن بلوغه الروحاني وهي الخامسة عشر في الديانة البهائية، فإنه يستلم بطاقة دعوة خاصة به من الخالق سبحانه وتعالى للحضور بين يديه والسجود في ملكوته والاستفاضه من أنوار رحمته ومغفرته. يتفضل حضرة بهاءالله في كتاب الأقدس " قد فرض عليكم الصلاة والصوم من أول البلوغ امرا من لدی الله ربكم ورب ابائكم الاولين". ويقع على عاتق الوالدين تربية طفلهما على احترام هذه الدعوة اليومية للقاء خالقه والتعرف على وظيفته الروحانية بالاستفاضة من أنوار خالقه. إن كان الله تعالى يشبه الشمس بنوره الذاتي فإننا نشبه الكواكب السياّرة ، ندور في مدارالشمس ونعكس نورها. لا تمتلك الكواكب نورا ذاتيا، بل يعتبر كل كوكب كتلة مظلمة خالية من مظاهر الحياة. يملك الكوكب خاصية التأثر بنور الشمس الذاتي وعكس هذا النور في وجوديته. ولكن شرط هذا التأثر والتأثير هو بقاء الكوكب في مداره حول الشمس، فإن ابتعد وخرج عن هذا المدار رجع الكوكب إلى هويته الوجودية المظلمة. يتفضل حضرة عبدالبهاء " الصلاة هي اسّ أساس الامر الالهي وسبب احياء القلوب الرحمانية وبعث الرّوح فيها". يشبه وقوفنا بين يدي الخالق والاستفاضة من أنواره الذاتية استفاضة الكواكب المظلمة في مدارها من النور الذاتي الذي ينعكس من الشمس. فهذا اللقاء اليومي مع خالقنا يبعث الروح في كينونتنا الدنيوية وتملأ وجوديتنا بخصائص النور الإلهي. ويبقى السؤال الأبدي: لماذا شرّع الخالق في جميع أديانه السماوية فريضة الصلاة على عباده؟ لماذا يحتاج المخلوق أن يحضر يوميا بين يديّ خالقه؟ في رحلة البحث عن الأجوبة، يملك كل فرد حرية التفكر والتعمق في أهمية اتباع هذه الفريضة الإلهية
يذكر حضرة بهاءالله في دعاء الشفاء الطويل أسماء وصفات الله تعالى. وعندما يتلو المخلوق هذا الدعاء فإنه يناجي خالقه بكل ما يملكه من أسماء وصفات تنعكس من نوره الذاتي ويدعوه بأن يحفظه في مدار هذا النور. فمهما اختلفت حالات المخلوق واحتياجاته، فإن الخالق يحتويه بأنواره المنعكسة من خلال أسمائه وصفاته. ويستطيع الوالدان مساعدة طفلهما على ادراك عظمة وقوفنا بين يديّ الخالق يوميا في مقام فريضة الصلاة من خلال تلاوة دعاء الشفاء الطويل معه. فعلى سبيل المثال ، من بعض أسماء وصفات الله التي ندعوه بها في هذا اللوح " بِكَ يَا قَادِرُ بِكَ يَا نَاصِرُ بِكَ يَا سَاتِرُ" و" بِكَ يَا نَافِعُ بِكَ يَا شَافِعُ بِكَ يَا دَافِعُ" و " بِكَ يَا عَادِلُ بِكَ يَا فَاضِلُ بِكَ يَا بَاذِلُ" و" بِكَ يَا عَطُوْفُ بِكَ يَا رَؤُوْفُ بِكَ يَا لَطُوْفُ" و " بِكَ يَا مَلَاذُ بِكَ يَا مَعَاذُ بِكَ يَا مُسْتَعَاذُ" و " بِكَ يَا فَتَّاحُ بِكَ يَا نَصَّاحُ بِكَ يَا نَجَّاحُ" و " بِكَ يَا وَهَّابُ بِكَ يَا عَطَّافُ بِكَ يَا رَآَّفُ". هذه هي بعض أسماء وصفات الخالق الذي نقف يوميا بين يديه في صلاتنا
وكما أن هذه الأسماء والصفات تعكس جمالية الخالق وعمق حبه لنا، فإننا نعكس عمق حبّنا للخالق بالانقطاع من كل شيء من حولنا في ظاهرنا وباطننا والتوجه إليه في صلاتنا بقلب خالص نقي. وكما أن لقاءنا بالملك يحتاج إلى مراعاتنا لشروط تعكس احترامنا لهذا الشرف اليومي باللقاء كذلك فإن لقاءنا اليومي بخالقنا يحتاج إلى مراعتنا لشروط تعكس مدى احترامنا لشرف الوقوف بين يديه في صلاتنا. تعتبر الصلاة مناجاة المخلوق لخالقه وهي انعكاس لمناجاة المحبوب لحبيبه والوقوف بين يديه في هيئتنا الانسانية الناقصة للاستفاضة من نوره الذاتي الأزلي
ومن أهم شروط هذا اللقاء هي فراغ الذهن وصفاء القلب. ولهذا فإنه من الصعب أن يحاور الانسان خالقه حين وقوفه بين يديه في محراب الصلاة إن كان يصلي في مكان يرتفع فيه ضجيج الدنيا من الراديو والتلفزيون وأحاديث أفراد الأسرة وأصوات الألعاب الإلكترونية ورنين الهواتف. الصلاة ليست فريضة يومية يقوم بها الانسان وينتهي منها. الصلاة لقاء يومي بين الحبيب وحبيبه، لقاء يومي بين المخلوق وخالقه. الصلاة فريضة يومية نقف فيها بين يدي الخالق لتمتلئ وجودنا بنوره وإلا فإننا سنفشل بعكس اشراقات النور من وجودنا. في كثير من الأحيان، ينسى الفرد الهدف من استلامه لهذه الدعوة المباركة للحضور بين يدي خالقه، ويظن بأنها فريضة يكفيه أن يقوم بها دون الاهتمام بوضعية قيامه بهذه الفريضة، فمثلا، عندما يحين موعد صلاته و بدلا من أن يذهب إلى غرفة خالية ويغلق الباب على نفسه ليحيط وجوديته بصمت روحاني وترتقي بقلبه للتحاور مع محبوبه يختار أن يصلي في قاعة الجلوس بين ضجيج أصوات الحاضرين والتلفزيون وبين طخطخة وقع الأقدام الذاهبة والآتية من كل صوب. أو مثلا، عندما يحين موعد صلاته و بدلا من أن يطفيء الراديو ويخفض صوت التلفزيون يختار أن يصلى في وضعية تغطي صوت الدنيا صوت كلماته لمحبوبه في صلاته. كثيرا ما نظن بأن الله تعالى قد فرض علينا الفرائض دون أن يفرض علينا كيفية قيامنا بهذه الفرائض. ولكن، ما الهدف من هذه الفرائض إن لم يكن الخالق هو من سيستفيد منها؟ من الذي سيستفيد من قيامه بفريضة الصلاة؟ هل سيستفيد الخالق أم سيستفيد المخلوق؟ بناءً على تحديد الجهة التي ستستفيد من قيامها بالفريضة المشروعة نستطيع أن نتعرف على الحالة والوضعية التي يتحتم على المخلوق مراعاة شروطهما عند التقائه بخالقة في لحظة الصلاة
تعتبر فريضة الصلاة وكأننا استلمنا دعوة شخصية فردية من خالقنا بالحضور إليه وسمح لنا بالوقوف بين يديه ومناجاته، وتعتبر هذه أعظم وأعلى وأهم وأرقى لحظة يعيشه الانسان في يومه، لحظة الالتقاء بخالقه. لا يوجد في الدنيا أي لحظة توازي في عظمتها وعلوها وأهميتها ورقيها عظمة وعلوّ وأهمية ورقيّ لحظة الصلاة. الصلاة ليست فريضة أوتوماتيكية يقوم بها الفرد ويظن بأنه قد قام بواجبه الديني بأحسن وجه. الصلاة دعوة من المحبوب بلقائه، وقد فرضه علينا لأنه يحب حضورنا بين يديه. من شرط الوفاء أن نحترم هذه الدعوة اليومية بالكيفية التي نلبي فيها دعوة الحضور بين يديّ ملكٍ عظيم رحيم رؤوف كريم. ويقع على عاتق الوالدين تربية طفلهما على فضيلة الوفاء
|
|